زهير الجبوري
تحيلنا النزعة الشعرية عند الشاعر عمر السراي في مجموعته الأخيرة (ولهٌ لَها / 2019 ) الى حالة مغايرة في سياق النبرة الشعرية المألوفة التي عرف بها، وقد أدرك بأن القصيدة ليست لعبة لغوية فحسب، إنما خلق (جنوسي) تتداخل فيه عوامل البناء الذاتي لخلق شحنات نصية لمعنى إشكالي، فهل القصيدة أنثى، أم هي تجليات واصفة، أم
استعادية..؟
ربما هي تجاورات خلقها السراي بغية الوصول الى تماهيات مفتوحة في طريقة التلقي، ولعل هذه المجموعة خلقت انتباهة ذكية في طريقة كتابة النص الشعري وتعدد ألوانه، وفي الترتيب العتباتي
لـ (العنوان..، والمستهلات، والنصوص المرقمة..، والقصائد الموزونة /المقفاة)، ولكي لا أبتعد كثيراً عن هذه التجربة، كيف لي تصنيفها..؟
وكيف التعامل معها بوجود وحدة الموضوع من جهة، وطريقة تعدد الكتابة من جهة أخرى، بهذه الحالة سنجترح ثيمة مشتركة توحد كل ذلك، هي (متوالية الوحدات الشعرية)، وهنا نقترب من التصنيف (المناصي) الذي اجترحه (جيرار جنييت) عن العتبات البنائية المشتركة والمنتجة، بمعنى أننا نقرأ عنوانا عتباتياً لمعنى مضموني مناصي منتهٍ بوحدة شعرية متكاملة الأبعاد، وقد يبدو للقارئ غير المختص أن نصوص وقصائد الشاعر تأملية، او بالأحرى تأملية غنائية، غير أني أمسك بحدود اللّغة ما يتجاوز ذلك من خلال التناظرات الثيمية للمضمون الشعري، (بعيداً عن فنية القصائد)، وعلى وفق التتابعية البنائية، وانطلاقاً من تحديد الوحدات الشعرية في المجموعة، فإن الوحدة الشعرية المتمثلة بـ (العنوان/ العتبة) فتحت شفرة الدخول الى الوحدات الأخرى، فالعنوان لم يكن محبكاً او فيه صيغة تغريبية مفارقة، وليسمح لي الشاعر القول هي من اللوازم اللّفظية التي يمارسها في يومياته، ولا ضير في ذلك، فقد انصهر مع ما جاء في
المجموعة ..
1ـ الوحدة الشعرية وبنية المستهل: من نوادر الشعر العراقي أنك تجد مستهلاً تمهيدياً يكتب بطريقة نصية، غير أنَّ عمر السراي أراد أنْ يفتح نوافذ المجموعة من خلال خلق مناخات استهلالية، ورسم خيوط توصل المعنى وتحقق إيغالا مؤثراً لدى المتلقي، فكان المستهل الأول بعفويته يكشف عن حبكة اتصالية لشعرية عقلية تَفَكّرية (نحن لا نكتب الشعر ../ نحن نغنّيه كي تستظل القصيدة بالوجع الحلو../ والأمنيات)
ص7.
أما المستهل الثاني، فهو مشهدي/ استرجاعي، وعادة ما يحمل هكذا لون من الكتابة بنية سردية، ومن ثم يعبر عن قصدية رغم ميله الشفيف الى الحس الهاجسي الذاتي (الشبابيك التي تضيء وجه العتمة بعض تفاصيله ../ في تكشف عن جزءٍ يكون أحلى حين يستتر غيمةً في كف إله / وكم يخرج الأطفال أَكفّهم من حافلة تقودهم من المدرسة الى الجنة وقت المطر..) ص9ـ10. وفي المستهل الثالث، هناك مونولوج خفي، داخلي، استنهض بفعل التراتبية المنسرحة مع وحدة الموضوع او مع الكائن المحاوَر الذي نستعيرهُ من عنوان المجموعة (لَها)، لذا نقرأ (ولأنَّكِ لم تهنّئيني بعيد المعلم../ مع أنّ شفتيك الخلدونيتين تعلمتا (دار، دور) القُبلِ على يديَّ) ص15ـ16.
2ـ الوحدة الشعرية وبنية التعدد: حين نمسك في بعض قصائد الشاعر وهي تمارس بنية التعدد المتفرع، فهل هي تكرار التكرار، أم التكرار
الدائري..؟
بمعنى أنَّكَ تنطلق من عتبة عنوانية، ثمّ تستكمل المعنى الأول من المعنى التالي والذي بعده كتراتبية تناسقية متساوية الأبعاد والرؤى كـ (غزليات 1) و (غزليات 2)، و (صباح 1) و(صباح 2) و (صباح 3) و (مطر 1) و (مطر 2) و (مطر 3) و (أنثى 1) و (أنثى 2)، فإننا أمام انتباهة كبيرة مفادها أن النص الشعري لا يخضع لعنونة واحدة، ولا لرؤيا واحدة، ولا لزاوية واحدة، ويمكن اعتبارها تناظرات متعددة الرؤى ومتحدة في المبنى النصي، المبنى بمعناه التكويني/ اللّغوي، وأرى شخصياً لو أَنَّ عمر السرايّ اشتغل بتفكره المعهود في تجربة لاحقة، فإنه سيلاحق التحولات الحديثة في القصيدة المعاصرة، ولأننا بصدد بنية التعدد، نقرأ في (صباح 1) : (صباح يليق بعينيك أحلى صباح/ ص86)، وفي
(صباح 2) : (أيها الصباح تمهل وأنت تمرُّ عليها /ص87)، وفي (صباح3): (ربّما ستجدين من يصطحبك الى البحر/ ص88)، في هذه الصباحات ثمّة حس انبعاثي متجدد، لكنه الـ (الوَلهْ) المشحون بالإيحاء الذاتي، وكذا الحال في النصوص الأخرى، وحتى في غزليات (1 و 2) التي كتبت بطريقة الوزن والقافية ..
3ـ الوحدة الشعرية/ عنوانات مفتوحة: تبدو قصائد المجموعة مرهونة بثيمة موضوعية تحدثنا عنها بايجاز، ومع إمساكنا نقدياً بوحدات شعرية تميزت بها فنياً، إلاّ أنّها انساقت وبشكل تناظري مع بعض القصائد ذات التنوع الموضوعي لكل قصيدة أو نص، انطلاقاً من العنوان مروراً بالمضمون وانتهاءً بنقطة الخاتمة، ولكنها مضمونياً تغور بذات الحبيبة، وكأن عمر السّراي يشير بـ (ولههِ) الى إشكالية الوصف للحبيبة، والقصائد (آحاد.. عودة.. نداء.. عكاز.. ارتقاء.. موّال.. خلخال.. عيد.. صح وغلط.. فكرة ارتقاء.. عشاق.. نوح.. س.. فقدان.. تجربة.. ورد.. عشاق.. نوح.. أجيبي على أحد الفرعين.. سبع عيون، وغيرها)، أفاضت المعنى المتنوع للآخر / الحبيب / المُخاطب، ولعل فعل التجاور بين كل هذه القصائد هي الذات المحورية / ذات الشاعر وهو يلعب بلغته بطريقة درامية (دراما خفية كشفها الإيقاع الداخلي)، لأَنَّك تسمع صوت السّراي مع النص المدوّن، فأَيّ قدرة تلك التي اجادها الشاعر بجعل المحسوس/ الصوت يظهر مع النص المكتوب، أعني هنا تلقي النص الشعري بلا وعي القارئ، والأمثلة كثيرة في ذلك، نقرأ في (نداء): (أكرر../ على جميع المسافرين الى الحبِّ/ التوجه الى البوابة رقم (صفر) / فهو الرقم الوحيد الذي سيبقى لكم بعد انقضاء الرحلة الفاشلة) ص25.. ونقرأ في (عكاز): (حبيبتي ../ غداً ستنتهي الحرب ../ وسأتحدث لك عن الشواجير التي ألقمناها في دمائنا) ص26.. وأيضاً في (صح وغلط): (حتى قبلتنا التي تقوّست بها نحو الشرفة كمهرِ من اللؤلؤ فعلناها معاً) ص35..