في لحظة زهو وخيلاء، فرضتها هالة المعمار وجماله الباذخ، قال الامبراطور البيزنطي جستيان الاول، وهو يفتتح كنيسة آيا صوفيا (الحكمة الإلهية)؛ ((ياسليمان لقد تفوقت عليك))! ويقصد النبي سليمان الذي كان يسخّر الجن لإقامة الابنية الكبيرة
المدهشة!
في العام 532م أمر هذا الامبراطور، ببناء كنيسة في القسطنطينية على أنقاض أخرى، يقال إنها تعرضت للبناء والهدم اكثر من مرة، وبعد خمس سنوات اكتمل البناء الذي أدهش الامبراطور ودفعه للتطاول على مقام النبي سليمان في لحظة زهو، ستتبعها لحظات أخرى، توزعت عمر هذا البناء الذي سيكون علامة معمارية فارقة ومدار صراع دموي ورمزي، نقف اليوم على آخر تجلياته بعد قرار حكومة اردوغان (الاسلامية) إلغاء قرار أتاتورك في العام 1934 بتحويل هذا المبنى (الكنيسة / المسجد) الى متحف... المعروف أنه بعد نجاح (محمد الفاتح) ابن الـ 21 ربيعا، بفتح تلك المدينة، التي سيّلت الكثير من حبر المؤرخين، ودحره حلفا مكونا من البيزنطيين والبنادقة والجنويين بقيادة قصير الروم الامبراطور قسطنطين ياليولوك الحادي عشر، في العام 1453، حوّل كنيسة (آيا صوفيا) الى مسجد، منهيا بذلك رحلة صراع مريرة بين المسلمين والروم (المسيحيين)، بدأت منذ العهد الاموي مرورا بالعهد العباسي، اذ لم ينجح المسلمون في فتحها، قبل هذا التاريخ الذي سيكون واحدا من ابرز تواريخها وأكثرها إثارة على الإطلاق.
رمزية (آيا صوفيا) استثمرت سياسيا، ووفقا لاستحقاق كل مرحلة من مراحل تاريخها، فالمسلمون (العثمانيون) بتحويلهم إياها الى مسجد، كانوا يرومون تكريس انتصارهم العقائدي واستقطاب المسلمين وتمتين أسس (دولة الخلافة)، التي ستكون غطاء لامبراطورية عظمى اندفعت شرق وغربا وداهمت اوربا، بعد أن فتحت لهم القسطنطينية بابا عليها، لكن البلقان كانت المحطة التي توقفت عندها خيولهم ولم يتجاوزوها. قبل أن تبدأ رحلة العد العكسي، إذ ستكون الحرب العالمية الاولى، مطلع القرن الماضي، بداية نهاية تلك الامبراطورية التي باتت في أواخر عهدها تنعت بـ (الرجل المريض)، الذي انقض عليه الاوربيون وهم محملون بإرث ثقيل من الثأر والكراهية، وهنا ستدخل (آيا صوفيا) مرحلة جديدة من الاستثمار الرمزي، لكن بشكل آخر.. فأتاتورك الذي بات على رأس الدول التركية الحديثة، وريثة الامبراطورية العثمانية او دولة الخلافة الآفلة، لم يكن علمانيا وحسب، بل كان ملحدا أيضا وكان يرى الدين سببا في تخلف الأمة التركية وتعثر نهضتها المطلوبة، وان نهضة جديدة يجب أن تبدأ بالتنافذ مع اوربا الحداثة والعلم والمكننة، وهكذا أدار الرجل ظهره للعالم الاسلامي، لتصبح استانبول او (القسطنطينية) هذه المرة باب اوربا الى الشرق بثرواته الهائلة وعمقه التجاري الكبير.. لقد علمن أتاتورك تركيا الدولة، لكن من الصعب عليه أن يعلمن شعبها كله، وكان من آيات علمنته الدولة، تحويل (آيا صوفيا) الكنيسة السابقة والمسجد فيما بعد، الى متحف، وقد كانت هذه الخطوة مثقلة برمزية عالية جدا، وتضرب بأكثر من اتجاه، فهو أراد القول للاوربيين، إنه غير راضٍ عن تحويل الكنيسة الى مسجد، فاسترضاهم ضمنا، وايضا ليقول إنه بدأ مرحلة جديدة وضع فيها الدين، كل الدين، جانبا، اذ لم يعيدها الى كنيسة لكي لا يعيد انتاج الدين، وان بشكل مختلف، وهكذا بقي اتاتورك في قراره هذا، واقفا في المنتصف، وتملص من عبء طويل، ربما لم تعد تركيا الحديثة قادرة على الاستمرار معه.. لقد وجد الرجل الطريقة المناسبة للخروج من (آيا صوفيا) ورمزيتها التي تستدعي قرونا من الزمن بكل صراعاتها الثقافية والعسكرية والسياسية. فالمدينة التي كانت عاصمة للرومان لأكثر من ستين عاما، ثم عاصمة للبيزنطيين لأكثر من ثمانمئة عام، ثم لفترة قصيرة عاصمة للامبراطورية اللاتينية، قبل ان تصبح عاصمة للعثمانيين، ويتحول اسمها أخيرا الى استانبول (مدينة الاسلام)، اختزلت تواريخ اكثر من جهة، عندما كانت محور صراع طويل وحلما يتوسده الاباطرة ويعدّون العدة لتحقيقه بالسيطرة عليها!
هل كان قرار اردوغان المتمثل بإلغاء قرار اتاتورك التاريخي، بشأن هذا الصرح الذي يقف شاخصا بين العالمين الاسلامي والمسيحي بمثابة استعادة لروح فتح القسطنطينية، بما تمثله (آيا صوفيا) من رمزية عالية في هذه المرحلة، التي يريد اردوغان القول من خلالها، إنه بات الوريث الشرعي للخلافة العثمانية التي حققت بفتح القسطنطينية للمسلمين ما لم يحققوه بقرون؟ وهل ان دوره الان في المنطقة، إذ يقدم نفسه صاحب مشروع اسلامي احيائي، هو ما دفعه لاتخاذ هذا القرار الذي يرى أنه سيقوي من جبهته الداخلية بعد أن تكتل العلمانيون الاتراك ضده وصاروا يستقطبون حتى بعض قيادات حزبه (حزب العدالة والتنمية)، وان مثل هذه الجرعة العاطفية العالية التي يحتاجها البعض في تركيا وخارجها، ضرورية لادامة زخم مشروعه المترنح باكثر من ميدان دخله، لاسيما بعد تورط تركيا في أحداث مايعرف بالربيع العربي، واشتباكها مع أكثر من دولة اوربية وغير اوربية؟
نعتقد أن هذه الخطوة تمثل مغامرة، وان نتائجها لن تكون بصالح اردوغان الذي فقد الأمل بالانضمام للاتحاد الاوربي، الذي لو حصل لما أقدم على هذه الخطوة أبدا، ولما احتاج لرمزيتها ولا لثوابها الدنيوي والآخروي معا! فصار يسعى لاتحاد يصنعه بنفسه، لكن بتوسل أساليب لم تعد فاعلة في هذا العصر!