خروجاً عن المعتاد في كتابات حسن العاني الصحفية، جاء كتابه الموسوم (دفتر صغير على طاولة – وجوه وحكايات) ليقدم لنا وجهاً آخر له، لم نتعامل معه من قبل، إذ غابتْ أهمُّ خاصيتين تميزان اسلوب الكاتب، انفرد بهما او كاد عن كتّاب الاعمدة في العراق، وأريد بهما غياب (النقد الساخر) من ناحية، والذي كان سوطاً من نار جَلَدَ به ظهور الانظمة منذ سنوات بعيدة... و(الخيال الحكائي) او الحكاية الخيالية التي يقوم عليها العرض من ناحية اخرى... وهذا أمر غريب – لان كتابه الذي بين أيدينا، والصادر عن دار شهريار في 224 صفحة، هو مجموعة مقالات (75 مقالة) منشورة في شتى المطبوعات العراقية للمدة ما بين (1993-2018)- حيث يفترض ان تخضع بالضرورة الى احكام (النقد الساخر + حكاية الخيال)، الا انها خرقت العادة ولم تكن كذلك، مكتفية بالحفاظ على بعض الخصائص الاسلوبية الاخرى التي سنحاول الاشارة اليها لاحقاً..
حين تأملت هذا المستجد او الطارئ على قلم الكاتب، اكتشفتُ بأن هذه المقالات التي اختارها من بين آلاف المقالات التي نشرها عبر مسيرته – كما أشار هو الى ذلك في المقدمة – لها خصوصية معينة توجب الابتعاد عن (النقد الساخر) بوجه خاص، وعن حكايات الخيال قدر الامكان، وتتمثل هذه الخصوصية في كون المقالات بالكامل تعتمد على أحداث ووقائع، (ابطالها) او شخوصها موجودون، ومعظمهم من النخبة، سواء كانوا ادباء ومثقفين واعلاميين، أم وزراء ورؤساء جمهوريات، ومن ثم فنحن ازاء (حكايات واقعية) لا يجد الخيال فيها مكاناً له، وهذا ينسجم تماماً مع المقطع الثاني لعنوان الكتاب (وجوه وحكايات) الذي كان الاكثر اقتراباً من محتويات الكتاب ومضمونه مقارنة بمدخل العنوان الفنطازي (دفتر صغير على طاولة) الذي – برغم جماليته – يحمل أكثر من رمز ويحتمل أكثر من تفسير...
ثمة خاصية أسلوبية لم تفارق (أعمدة) العاني منذ تهيأ لي الاطلاع عليها في ثمانينات القرن الماضي، ثم الاقتراب منها بعد 2003 الى ان انتهى بي المطاف مريداً من مريديها، وهي سيادة (روح الدعابة) أو المزحة، ولهذا حملتْ عناوينُ مقالاته او (زواياه) هذا المعنى على غرار (حكايات ضاحكة – نواعم – ضربة جزاء – دغدغات - .. ما يضحك)، وهذا التعدد في مسميات العناوين قد يثير تساؤلاً عن أسباب عدم استقراره عند واحد منها... واعتقد أن العاني كان ينشر في مطبوعين او ثلاثة وأحياناً أربعة في وقت واحد، وبذلك فإن ضوابط العمل الصحفي هي التي قادت الى هذا التعدد... ولكن هذه الدعابة او المزحة مع حضورها في (الدفتر الصغير) إلا أنها من نوع جديد، لان مقالات الكاتب التي تقع خارج مجموعة الكتاب، كانت تطرح نفسها بصيغة توأمة بين (الدعابة) وبين (السخرية) بما يصح ان نطلق عليه مصطلح (السخرية الضاحكة) في حين لم أعثر في هذا المطبوع (الدفتر) إلا على المزحة مع غياب السخرية، لان الكتاب كما سبقت الاشارة لا ينتمي – كما في الكتابات الأخرى – الى (النقد) الذي يستعين بالسخرية الضاحكة وسيلة من وسائله لبلوغ الهدف المطلوب، ولذلك اقتصر على رسم الابتسامة التي غالباً ما تكون (عريضة) على الشفاه، حتى وهو يروي على سبيل المثال حكاية جرت أحداثها مع صدام حسين او فؤاد معصوم او السفير البريطاني.. ومن هنا يمكن الاشارة باطمئنان الى ان المزحة او الدعابة المرحة هي إحدى خصائص الكاتب الاسلوبية التي لم تغبْ عنه أبداً، وهي احدى عناصر التشويق في مقالاته..
حين أعدتُ قراءة الكتاب للمرة الثانية من باب المتعة، لاحظت بأن النقد لم يتراجع وينسحب عن قلم الكاتب كما توهمتُ، غير أنه أخذ منحى جديداً، فقد تخلى عن سخريته وكوميديته السوداء استجابة للعوامل الجديدة، حيث الحدث الواقعي وحضور الشخصية الحقيقية، ولكن اصبح من الممكن التعرف عليه (أقصد النقد) سراً عبر قراءة المخفي، مثلما اكتسى النقد الجديد هذه المرة برداء الحزن الشفيف بديلاً عن السخرية العلنيّة.. إنه حاضر من دون الاعلان عن نفسه، يقول لك بعينيه وليس بيده او لسانه أنني موجود هنا... ويكفي دليلاً على ذلك، الوقوف وقفة متمعنة عند مقالات (الحجاج وابن عباس – ص201) (ذكريات كهربائية- ص189) (بوش شيوعي – ص51) (أين الطاهر – ص87) وغيرها، واعتقد ان النقد الموشى بالحزن الشفيف اعلن حضوره ابتداء من الاهداء (الى عمار واميمة ومخلد، حيث لم اترك لهم قطعة ارض على ضفاف دجلة، ولا قصراً في المنطقة الخضراء، ولا ملياراً في مصرف اجنبي، ولا إرثاً يفاخرون به.. لا بد من الاعتذار، لان كل ما خرجوا به من والدهم، هو وجع الكتابة!!)، على ان اهم عناصر الكاتب الاسلوبية- وهي وجهة نظر شخصية – من دون التقليل من اهمية العناصر الاخرى، تكمن في لغة العرض السلسة البسيطة الواضحة، القريبة من ذائقة القراء على تباين مشاربهم وثقافاتهم، والتي يمكن ان أقول عنها بقناعة، إنها الوجه الأنصع لما يعرف بالسهل الممتنع... و... عذراً للسيد العاني اذا لم أعطه ما يستحق من الثناء والاعجاب، وهو يستحق
الكثير.