التجريد نزعة الشكل وفقدان المعنى

ثقافة 2020/07/25
...

خضير الزيدي 
 

يذهب متذوقو ونقاد الفن التجريدي، إلى أن هذا الفن، يمثل بناءً شكليا مركبا، على قماشة اللوحة. بينما المعنى والموضوع، فهما عصيان على الفهم، وغالبا ما يتم التأكيد من قبل منظري التجريد إلى أنه مثل استقلالا بانفصاله عن لمسات الفن الأخرى وبقي مكتفيا بطاقة عناصر اللوحة، وعلى هذا السياق ثمة ما يؤكد قيمة التجريد الهندسي وطريقة نظامه الشكلي ومحتواه.

وهذا التصور يذكرني بما حمله الفنان التجريدي بيراد حينما قال: (إن الفن التجريدي هو فن من دون موضوع ليس له أهداف نفعية سوى الحرية والرغبة واللعب بالألوان والأشكال والخطوط)، بينما نقرأ في كتاب فورنجيه (التجريد والاتصال الحسي مع العالم)، ما يعزز التداخل بين التجريد وعلم النفس، وهذا ما تبين لنا من خلال مقولته (كل خط ملموس ليس إلّا نتيجة مركبة من شيئين؛ أولا الإحساس والشعور، وثانيا الرؤية، فإذا تملك الخط شعوري أشعر بسعادة وحرية)، ولكن التساؤل الطبيعي هنا، إذا كان التجريد يعطينا شعورا جراء الخط واللون وطاقته فهل يرشدنا للمدلول ووجهته من دون أن نشك أو نتعذب في تفسير معنى ما يشير إليه؟، من المؤكد أن لكل فنان يتعامل مع هذا اللون الفني أسلوبا معينا يتمثل في أدق تفاصيل بناء اللوحة من استعمالات للمواد وأدوات للرسم وطبيعة القماشة حتى نتائج تداخل الألوان ومعالجة الخطوط وتمايز الأشكال وتقاطعها، وتشترك هنا فيها أصول بنائية ربما تتوارث جراء الدرس الأكاديمي أو طريقة تفكير الفنان بما يستدعي توظيفه، فعملية الرسم المباشر أكثر حساسية من غيرها، وبما أن الشكل المجرد قابل لإلغاء رغبتنا في الرجوع للحقيقة المطلقة أو الصيغ الهندسية فسيعمل  معنا الخيال على إعطاء الموقف الداخلي فسحة من التأمل والتأويل، وأحسب أن الفن التجريدي يؤسس لبناء لوحة قبل توظيف المعنى وهو إحساس بديهي وطبيعي جراء الهوس العاطفي بمسائل اللون والخط وقيمة التكوينات، ولكن ليس غريبا أن نجد تصورا مختلفا عند بول كلي حينما يقول عن لوحاته بأنها تجريدية لكنها مليئة بالذكريات الواقعية، طبعا لأنه مولع وميال نحو الطبيعة، وعرف ذلك التداخل الغريب بينهما والاعتماد على مخيلة منفتحة أنتجت بالضرورة نظاما للفن بما تتملكه العاطفة وتبديه مشاعر بول كلي. الواقعية المقصودة في عبارته ليست صورة وهمية تتناقض مع طبيعة أعماله، إنها نقطة الانطلاق لحقائق الأشياء التي لامسها وشكلت له فيما بعد منطقا وانطباعا حسيا داخل منظومة عمله، وعلى سياق ليس ببعيد عن هذا الطرح ينبهنا فرانكستيل (بأن الفن التجريدي أراد الحصول على أشكال خارج نطاق العالم المرئي معتمدا على العالم الداخلي للفنان)، وكل هذه الإشارات تتبنى موقفا يميل إلى الاعتقاد بخلط الصوفية والمعتقد الداخلي بتذوق لوحة التجريد، وعليه أخذ الغالب ممن يدافع عن هذه المدرسة زج هذه الأفكار وتطبيقاتها في العمل الفني وتفسيره، وربما تنطبق هذه الرؤية مع الفنون الإسلامية من حيث الأقواس والحروف والأشكال الحيوانية والنباتية، ولكن كيف تنطبق مع لوحة كاندنسكي أو موندريان أو لوحة مالفيتش المسمّاة (مربع أبيض على أرضية بيضاء)، إننا أمام تأويلات تسحبنا لتأويل آخر وتفسير متناقض ضمن تجربة التجريد واستخدامات الزخرفة فيه أو ملء الفراغات. أتصور أن جميع الفنون إذا أبعدنا الفن الواقعي ستأخذنا لمناطق مؤولة لها وجهات مختلفة، والمشكلة هنا بأن ثقافة الناقد والفنان تجعل الفن التجريدي في أزمة، طبعا السبب في تعارض الفهم وافتقار الغالب من اللوحات إلى المصداقية وتبسيط تفاصيل العمل، وهو حساب يعتمد على الذائقة وطريقة الأسلوب لدى الفنان التجريدي؛ ولهذا لا غرابة أن نقرأ بأن هناك طابعا روحيا للفن، وعلينا أن نتساءل ما المقصود بالطابع الروحي وأين وجده متذوقو ومننظرو الفن التجريدي؟، مؤكد سيقودنا أولا إلى عضوية الأشكال والخطوط الهندسية والتزيين والتخطيط البنائي للوحة، ولكن نتساءل هل هذه الأشياء كفيلة أن تمنح الفن البعد الروحي؟ .. ما أعتقده بأن لا أحد منا يمتلك الشجاعة والأدلة القوية ليترك كلمته بأن هذا الفن غالبا ما يُسقط عليه الآخرون ثقافتهم وليس قناعتهم، مثلما يحدث مع أي باحث في الشأن الأسطوري والانثربولوجي هناك مساحة شاسعة من التأويل للعمل بينما نفتقد لأدلة صريحة. هذه الحسابات تفقدنا حجة الوصول إلى رؤية مشتركة تجاه التجريد، وعليه لا غرابة أن نجد لكل فنان أنموذجا متميزا يقتدي به، وقد يتطابق التشابه بالشعور بينما تختلف مخططات الفن، وخير من وضح لنا مصداقيته معترفا تجاه هذه المدرسة الفنية هو الفنان التجريدي وارب حينما أعلن مقولته (أريد التحرر من الموضوع والشيء لكن لا أريد أن أخضع فني لمقولات نظرية عقيمة مغلقة بل أريد أن أحتفظ بحرية الإحساس البصري الطبيعي)، ألا يبدو الأمر أكثر صعوبة بعد هذا الاعتراف، ما أود تأكيده  أن الأشكال وتنوعها مزدحمة بقوة داخلية تقود التذوق إلى رغبة في إشراك المتلقي بطاقة تعبيرية مختلفة لا يوجد موضوع في التجريد توجد كتل بنائية منظمة ومزينة تتساوى فيها جاذبية التكوينات والأشكال الملونة مع المدلول
المجرد.