مكة المكرمة / سعاد البياتي
لمنظرها المهيب وجلالة وجودها جمالية وشموخ لايوصف، فكل ركن من اركانها الاربعة له حكاية ربانية وكونية وتاريخية غزيرة المعاني والقدرات، واي راءٍ لها ينجذب لصورتها الشاخصة بخشوع واجلال لما تمتلك (الكعبة الشريفة) من بواطن روحانية تتربع في قلوب المؤمنين كافة، لاسيما حينما تكسو بعباءتها السوداء المذهبة كل عام في موسم الحج .
ويحظى الحجيج برؤية الكعبة بكسوتين الأولى عند وصولهم مكة المكرمة قبل الثامن من ذي الحجة لأداء مناسك الحج، والثانية عند افاضتهم من منى للطواف حول الكعبة بقصد اتمام أركان الحج، اذ تكون الكعبة قد تزينت بكسوتها المذهبة الجديدة في التاسع من ذي الحجة وقت وقوف الحجاج في عرفة.
{الصباح} في مصنع الكسوة
الدخول الى مصنع كسوة الكعبة المشرفة ليس بالأمر السهل، فالمكان يتربع على عرش منطقة جبلية بعيدة عن الحرم المكي تدعى( ام الجود) ولا يمكن ولوجها لغير العاملين فيها او التعرف عليها، الا بعد اتمامها، اذ ترتديها الكعبة المقدسة كل عام في التاسع من ذي الحجة (يوم عرفة)،
لتتشرف الكسوة بلمس احجار وجدار الكعبة بكل فخر وهيبة.
لذا ومن لطائف الخالق كان لي شرف الدخول هناك بعد موافقات رسمية يتقدمهم الحاج زاهد جهاد رئيس لجنة التطوع في الهيئة العليا للحج والعمرة الذي سهل لي أمر زيارة مصنع الكسوة ، للتعرف على مراحل صناعتها وخفاياها الجليلة.
فرادة الصنع
حينما تطوف حول الكعبة المشرفة ليس بالامكان تمييز الكلمات المكتوبة على ردائها بيسر، وحينما سألت مسؤول العلاقات والاعلام في المصنع تركي الشريف عن ذلك اجابني باتقان عن كل الآيات المكتوبة على كسوتها الشريفة، لانه عمل في المكان اعواما” عدة وخبر كل حيثيات مراحلها المعقدة والمبهجة في الوقت نفسه متحدثا عن مراحل صناعتها واعدادها :
اسس المصنع العام 1397 هجرية بأمر من الملك عبدالعزيزوالذي يقع في منطقة ( أم الجود ) بطريق مكة- جدة القديم على مساحة تبلغ أكثر من مئة ألف متر مربع.
الكسوة صناعة فريدة تمتزج فيها التقنيات الحديثة والأدوات التقليدية، المستورد والمحلي، الروحي والجمالي، من خيوط الحرير والفضة الخالصة اوالمطلية بماء الذهب، يستخدم فيها 675 كغم من الحرير الاسود للاجزاء الخارجية، والاخضر للبطانة الداخلية، و120 كغم من خيوط الفضة الخالصة التي تستورد من ايطاليا خصيصا لها، و100 كغم من خيوط الفضة المطلية بماء الذهب، هذه الخيوط لتطريز الآيات المكتوبة عليها العبارات القرآنية (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، (سبحان الله وبحمده) (سبحان الله العظيم)، (يا حنان يا منان)، (وسورة الاخلاص)، بتكلفة قد تصل مابين 20 - 25 مليون ريال
سعودي.
الحزام الذهبي
قسم التطريز هو قلب المصنع، فالعمل فيه يعتمد على الذهن والتركيز، لأن الخطأ ان وقع وفقد العامل تركيزه سيضطر الى اعادة ما اشتغل من البداية فالكل مرتبط بالبعض، وبدني ايضا لأنه يجلس وقتا طويلا منكبا على خيوط الذهب لدقة ما يعمل فيه، ورغم صعوبته وما نلمس من متاعب فيه، الا اننا نشعر بالفخر والشرف الكبير في اكمال الكسوة الشريفة.
وهنا تدخل الخبرة والاتقان والموهبة ايضا، وجميع العاملين في المصنع هم اصحاب خبرة طويلة واساتذة في تدريب المتقدمين للعمل في المصنع، حيث يستمرون لمدة ستة اشهر في التدريب ليكونوا عمالا
ماهرين . وبعد انتهاء العمل فيها وجاهزيتها يقام احتفال سنوي في مصنع كسوة الكعبة لتسليمها إلى كبير سدنة البيت، وفي أثناء فريضة الحج تستبدل الكعبة كسوتها لتستقبل الحجاج في ثوبها الجديد أول أيام عيد
الأضحى. والخامات المستخدمة فيها تدخل اولا” معامل لاختبارها والتأكد من جودتها ومطابقتها للمواصفات المطلوبة، اما خيوط الحرير والاصباغ فتستورد من ايطاليا وخيوط من الفضة بعضها مطلي بماء الذهب من المانيا، وكل قطعة مذهبة تضم ثلاثة عناوين (مكة المكرمة) و(مكان الصنع) و(اسم الخطاط ) والذي خط اول قطعة في الكسوة .
أول الخطاطين
انه الشيخ عبد الرحيم امين بخاري رحمه الله واضع خطوط وكتابات باب الكعبة وكسوتها بخط الثلث والمعتمد حتى الآن، ولد في مكة المكرمة العام 1335 هجرية 1917 ميلادية ومارس هواية الخط والرسم منذ الصغر، التحق بدار الكسوة منذ انشائها عاملا” في العام 1346 هجرية، تمرس خلالها على جميع الاعمال الفنية المتصلة بصناعة الكسوة من صياغة وحياكة وخط ورسم وتطريز لاسيما بعد وفاة الخطاط محمد اديب افندي وتم تعيينه رئيسا” فنيا” للعمال الفنيين بدار الكسوة
واصبح منذ العام 1962 وكيلا” لمصنع الكسوة ثم احيل على التقاعد في العام 1979 وعين مستشارا” للمصنع .
اهداء مشرف
يصف احد العاملين على التطريز في المصنع شعوره بهذا العمل بالقول: سعيد جدا بعملي، وافتخر به، فهو عمل ليس عاديا انها الكسوة الشريفة التي حباها الله سبحانه وتعالى وشرفها بلمس الكعبة، وكذا يصف العاملون سعادتهم بالعمل في المصنع المذكور بكل حب وبهجة وهم يطرزون الآيات القرآنية الشريفة بأيديهم. ومن الجدير بالذكر حسب سؤالنا لتركي الشريف عن مصير الكسوة القديمة بين: تقطع الى قطع حسب الاركان الاربعة، وتهدى من قبل العاهل السعودي لرؤساء الدول والسلك الدبلوماسي، والمتاحف
العالمية.
بعد تاريخي
كست العرب الكعبة المشرفة قبل الإسلام تشريفاً وتعظيماً لها، وعندما كساها النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بعد فتح مكة في العام التاسع للهجرة أصبحت كسوتها واحدة من الشعائر الإسلامية التي يحرص عليها الخلفاء والحكام المسلمون على مر العصور.