القناع الرملي

ثقافة 2020/07/26
...

ابتهال بليبل
 
 
امرأة تمرّ على مهل من أمام تمثال نحت في الرمل يصوّر أشخاصاً يرتدون أقنعة واقية للوجه برسالة كتب عليها: (محاربة فيروس كورونا) للفنان الهندي سودارسان باتنايك على شاطئ بوري في بوري.
هكذا يقول الخبر المقتضب الذي أراه مدخلا مهما لفهم موجة الحداثة الفنية الجديدة التي أطلقت عبارة "تنفّس بكمامة"، وكأن علاقة الذات مع الآخر باتت أبستمولوجيا مرتبطة بشكل ما بالتنفس.. التنفس فقط!
ترتكز الرسالة إذن على الكمامة، بوصفها الحاجز الذي يجب أن يغطي الفم والأنف لنصون الذات ونحافظ عليها كما يُفترض لتفادي انتقال الرذاذ الممتلئ بفيروس كورونا عبر التنفّس من شخص لآخر.. رسالة عميقة وتبدو سهلة ولكنها تحمل تحت طبقة الحروف الواضحة.. رسائل أكثر عمقا وتعقيدا وغموضا. 
غياب الكمامة أو وجودها على الوجه إذن هو الحد الفاصل هنا ما بين (الموت والحياة) هذه الثنائية الضدية التي تأسّس عليها الوجود عبر ثنائيات مشابهة أخرى شكّلت الفارق دائما ما بين الشيء ونقيضه.. منذ بداية تشكّل الوعي البشري لكن الكمامة اليوم هي بؤرة هذه الثانية مع ما تحمله من دلالات كثيرة (حاجز.. صمت.. تنقية.. إضافة) خاصة عندما نكتشف أن وجودها -أقصد الكمامة- يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. إذ تمّ العثور على بعض صور الأشخاص الذين يرتدون القماش فوق أفواههم على أبواب المقابر.
 فكرة التمثال الرملي إذن مؤشر حداثي دال جدا على دخولنا في عهد جديد، ولننتبه أنه من الرمل.. الرمل الهشّ الذي يتشكّل دائما بحسب الرياح..!!، فكيف نقرأ الرسالة وفلسفتها ونحن نحاول أن نجد ذواتنا في هذه الرسالة الرملية: (إذا أمسكت بها بيدٍ مرتخية ومنبسطة ستظل الرمال بين يديك.. وإذا قبضت يدك وضغطت عليها بشدة لتحافظ على الرمال سالت من بين أصابعك وقد يبقى منها شيء في يدك ولكنك 
ستفقد معظمها).
 إنّ الإمساك باليد من ممارسة سلطة الجسد على الآخر لتقييد ذاته، ولكن الرمل أيضاً هنا يلعب دوره في ذلك.. هو من يرسم لنا اليوم الإشارة.. هو من يقول لنا إنه على الرغم من نعومته وهشاشته.. فهو الأكثر صلابة في توصيل.. فكرة صادمة.
أحياناً تحاول سلطة الجسد مخالفة سلطة الذات والتمرد عليها، واستعمال الأقنعة يغاير صياغات كثيرة كنا نستعملها في الثقافة أو الفن.. إذ تغدو علاقة القناع هنا أو الكمامة صياغة جديدة لتمرد ضروري بل لا غنى عنه إذ يرتبط هنا مع الآخر الذي صار لزاما عليه أن (يتكمّم) هو أيضا.. في جدلية ثقافية جديدة تدعو إلى التأمل في هذا الجزء الجديد الذي أضيف إلى الزي البشري المألوف.
الكمامة التي أعتقد أنها وعلى الرغم من كلّ التقليعات والتسويغات التي ظهرت مؤخراً لتحبيب ارتدائها مثل "هوت كوتور" هي تكبيل الجسد بضرورة جديدة تشبه تماما لحظة ظهور الملابس في التأريخ البشري.
هذه الكمامة التي افتتن بها الفنان الهندي (سودارسان باتنايك) وجعلها مرتبطة بثنائية (الموت- الحياة). تقول الكثير، ولعل تخصيب رسالتها أن جعلها على الرمل أضاف إلى بعدها الرمزي مدى آخر.. الرمل والهواء والتنفّس.. إنها فانتازيا أن تكون الاستعانة بالحاجز أقصد بارتداء الكمامة لساعات.. هو حلنا الوحيد لكي نتنفس.. إنها رسالة بدأت بتمثال رملي لكنها ستدخل إلى أروقة الفن من أبواب أكثر صلابة كما 
أظن.