حكاية موت تأجل

ثقافة 2020/07/27
...

 
د. علي حداد
 
 
1
قال لهم الطبيب بنبرة يأس صارخ :
ـ لقد تأخرتم كثيراً .
         ثم تمتم مع نفسه: لا أظنه سيبقى حياً حتى الصباح؟ !.
كان يتحدث عني أنا الذي اجتاحتني (الكورنا)، لتتلف خلال أربعة أيام فقط ما تجاوز الستين بالمئة من الرئتين، وتهبط بالأوكسجين دون الخمسين.
 
2
ألج من فتحة مخروط أسود، يشبه ذلك الذي كان يستخدمه المصورون الشمسيون لصق آلات تصويرهم القديمة ـ ولكنه أكبر حجماً، وأعلى ارتفاعاً ـ لأواجه على يميني جداراً مشعاً، وبامتداد لا يدرك طوله أو ارتفاعه، تراصت فيه على شكل طبقات رقيقة ألسنة ضوء وامضة بدت كأجهزة استنساخ تتلقف ما يأتي إليها من خارجها من شرائح مماثلة لشرائح الذاكرة (mic)، تلك التي تقوم بشفطها، منهية أمرها ومضة ما تلبث أن تنطفئ بين شفتي واحدة من تلك الطبقات الضوئية التي تتحرك يميناً وشمالاً، وعلى نحو لا يمكن إدراك سرعة حصوله.
كان هذا العالم الذي جيء بي إليه هو العالم الآخر: (عالم الموت)، ويبدو أنه قد تجاوز ـ كما عوالم الوجود الأخرى ـ الأساليب التقليدية القديمة التي كنا نسمع عنها أو نقرأ، وطوّر له القيمون عليه تقنيات عمل تعتمد أقصى ما وصلت إليه الخبرات التكنولوجية في مجاله.
كنت دخلت ممسكاً بين سبابة يدي اليمنى وإبهامها بـ (شريحتي) الخاصة. ولم يكن في الداخل من بشر سواي. فقط كانت (الشرائح) هي وحدها التي تترى متدافعة، لتمتصها تلك الطبقات الضوئية، وتنهي أمرها .
حاول أكثر من واحد من تلك الأجهزة الضوئية انتزاع (شريحتي) من بين أصبعيّ، ولكني كنت ممسكاً بها بقوة، ومصراً على ألا أفقدها، الأمر الذي جعل تلك الأجهزة ـ بعد وقت قصير ـ تتجاهل وجودي، وتتركني و(شريحتي) نتقدم إلى الأمام، علنا نجد من نحدثه في شأننا.
مشيت مسافة ليست بالقصيرة، حتى وقفت أزاء منصة ناصعة البياض، يجلس خلفها رجل بملابس مشعة بدت أكثر نصاعة من المنصة ذاتها.
كانت قامته فوق قامة الرجل العادي بكثير، وببنية بدت متينة ومتناسقة على نحو يثير الإعجاب كون صاحبها كان أقرب إلى الشيخ منه أن يكون شاباً أو كهلاً. كان شعره الأبيض الكث منسدلاً على كتفيه بانسيابية طيّعة.
       لم ينتبه إليّ حتى كدت ألاصق المنصة، فقد كان مولياً اهتمامه جهة اليمين، حيث الأجهزة الضوئية التي تواصل دأبها بامتصاص الشرائح، واطفائها تماماً. ولكن حين سقط بعض من ظلي على المنصة تنبّه له، وبهدوء طيّع اعتدل بجلسته، ورفع رأسه نحوي، متفحصاً إياي بنظرة مستفهمة، لأتطلع متردداً في تعابير وجهه الجادة والمباسطة في الحين نفسه ـ وأواجه عينيه الواسعتين، وأنفه المنسجم مع قسمات وجهه الأخرى، واللحية المنسقة التي أخذت مساحتها من خديه. 
لم تثر عندي نظراته العميقة الفاحصة أي مشاعر قلق أو خوف، فقد بدت على شيء من الحنو الذي كنت بحاجة إليه، الأمر الذي منحني طمأنينة، وجعلني أكثر تماسكاَ قدّامه.
لبث فترة يتأملني، منتظراً أن أبادر بالكلام الذي بدا أن كلينا على بيّنة من أنه لن يكون بصوت معلن، بل عبر لغة باطنية توصل الأفكار بيسر وسلاسة، قلت :
ـ سيدي أنا رجل أديب وأكاديمي، قاربت بعمري الخامسة والستين من السنين، وقد استدعيت في هذه اللحظات لأغيّب في عالمكم (عالم الموت)، مغادراً الحياة الدنيوية البشرية على نحو سريع  ومفاجئ، بعد أن تسلّط عليّ ـ كما الملايين في كل مكان من الأرض ـ هذا الداء اللعين المسمى (كورونا)، ونال مني ما ناله.
أضفت بعد مسافة صمت قصيرة:
ـ أنا موقن ـ يا سيدي ـ من أن الموت هو قدر البشر الأخير المحتوم، مثلما أنا مدرك تماماً أن حصتي مما تبقى من سنوات العمر لن تكون بقدر ما مضى منها، ولكني لا أقبل أن ينتزع الذي تبقى في هذا الوقت، وبهذه الطريقة، وكأنه بقية مياه ركدت في المكان ويجب تجفيفها، فما زالت لديّ رغبات وأفكار ومشاريع كتابات أسعى أن تكتمل، لتنضاف إلى رصيدي الثقافي الذي أنجزته وأعتز به.
احتدم البوح في داخلي أكثر فسمعتني أقول:
ـ استوعب أن يموت المرء بعد شيخوخة عتيّة، أو مرض مزمن يلتهم وجوده، أو حادث مفاجئ تسقطه الأقدار بين براثنه. ولكن قطع حبل العمر بمثل هذه الطريقة ـ التي يبدو أنها قد اختيرت لي ـ يشبه الإجبار على أخذ إجازة مفاجئة، ولكن من دون الأمل بعودة منها. 
واستدركت:
ـ كما لا أجده مناسباً ـ بعد كل هذه العقود من العمر التي حرصت فيها على جسدي أن ينتزع مني ـ ليذهب به، كما أي (فطيسة) يخشى من رائحتها وعدواها. فقد كنت أمّلته ما أنه سيدفن يوماً ما باحتفال مهيب يليق به، وبما كان له وروحه من ذكر وسمعة حرصت أن يكونا حسنين.
توقفت عن الكلام برهة التقطت فيها أنفاسي، لأعاود بعدها النظر في العمق من عيني ذلك الشيخ الوقور، معلناً عن رغبتي الأخيرة :
ـ أريد ـ يا سيدي ـ تأجيل لحظة موتي المقبلة، وأن أخرج من هنا ـ كما جئت ـ  بشراً سوياً بروح وجسد متماهيين معاً .
        كان يواجهني بكثير من الإصغاء والانشداد. وحين صمتُّ ظل يتأملني لمدة بدت لي أطول مما هي عليه. رفع بعدها ذراعه اليمنى، وأشار إليّ بابتسامة حانية، مصحوبة بحركة من كامل أصابع كفه المفتوحة نحو فضاء ضوئي انفرج بمحاذاة المنصة، داعياً إياي أن أغادر عالم الموت من خلاله، كي أعود إلى رحبة الحياة الدنيوية.
 
3
 فجراً، وجدتني ملقى على عشب ندي في أطراف حديقة وادعة، وبجانبي حفيدي (غيّاث) ـ ذي الثلاث سنوات والنصف بقامته النحيفة وشعره الأسود المنسدل على كتفيه ـ يحاول استنهاضي بصوت هامس، كي نعبر الشارع الممتد أمامنا، إلى حيث البناية البيضاء الكبيرة التي تقع قبالتنا.
 
4   
نظر الطبيب إليّ ـ وهو يتفحصني في الصباح ـ باستغراب ودهشة، وهتف بصوت سمعه كل من حوله :
ـ لقد عبر هذا المريض برزخ الموت بشكل لا يصدق وعاد إلى الحياة 
مجدداً.