أثارت الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لطهران الكثير من التفسيرات والتحليلات؛ لجهة أن الزيارة كانت الاولى له خارج العراق، وحساسية العلاقة التي تربط العراق بإيران، وتحديداً مع الحديث عن الايدي الايرانية في العراق، الذي يرتبط مباشرة بالاوضاع الامنية .
أوساط معينة اهتمت بالتفاصيل التي لم تكن في صلب المهمة التي حملها الكاظمي لطهران؛ كالاهتمام بربطة العنق أو برتوكول هذا الاستقبال أو ذاك، وكيف سلم على هذا؟ وكيف جلس الى ذاك؟ متناسين أهمية المسؤولية التي حملها الرجل من أجل حل مشكلات بلاده والهموم التي يريد لها حلاً، وهو يتحدث بها مع دول وشخصيات وزعماء في المنطقة وخارجها .
الزيارة لطهران اكتسبت اهمية خاصة، إن كان ذلك للعراق أو لإيران .
العراق بلد خارج من مرحلة واجه فيها الحركات الارهابية نيابة عن الدول الاقليمية والمجتمع الدولي، وهو يتطلع لمرحلة الدفاع عن وحدته الوطنية والمجتمعية والبدء بمرحلة التنمية الشاملة بعد عودة هيبة الدولة والقانون، بينما يستعد لإجراء انتخابات مبكرة بعد سلسلة من التظاهرات نادت بإصلاحات أقرت من قبل مجلس النواب، في الوقت الذي يعمل فيه على استيعاب ظواهر عدم الامن والاستقرار في إطار أزمة اقتصادية خانقة بسبب الفساد وانخفاض اسعار النفط وعدم البرمجة الصحيحة لموارد العراق المختلفة .
أما ايران فهي دولة كبيرة في المنطقة، تمتلك علاقات متداخلة مع العراق ترسخت أكثر ابان مواجهة العراق للحركات الارهابية والتكفيرية، ولديها همومها الامنية والسياسية، في حين تمتلك علاقات متوترة مع الولايات المتحدة التي تعتبر الحليف الاكبر والقوي للعراق، بينما العلاقة مع الوسط العربي القريب من العراق ليست بالطبيعية، خصوصا مع المملكة العربية السعودية، وبذلك هي تطالب بغلق ملف التواجد الاميركي في العراق باعتباره يهدد امنها ويهدد الامن الاقليمي الممتد لسواحل البحر الابيض المتوسط كما تعرّفه طهران .
الحكومة العراقية كسابقاتها تدرك جيدا هذه الاجواء، وتلمس تداعياتها بشكل يومي على الوضع العراقي الداخلي، خصوصا ان مصطفى الكاظمي كان رئيسا لجهاز مطلع على التفاصيل وزوايا الامور أكثر من غيره، وبالتالي فهو جاء لطهران من اجل مناقشة ثلاثة ملفات اساسية؛ الاول الملف الامني والثاني الملف الاقتصادي بينما شكل الملف الثالث الملف الاستراتيجي الذي يربط بغداد بطهران .
الكاظمي تسلم الملفين الامني والاستراتيجي عندما تحدث مع جميع المسؤولين الايرانيين الذين التقاهم، وقد سمع منهم بلا استثناء - كما نقلت مصادر مواكبة للزيارة – ما يفيد بعدم نية طهران التدخل في الشؤون الداخلية العراقية بقدر ما هي تعرض وجهة نظرها في ما يخص الوضع الاقليمي والتحديات التي تواجه دول المنطقة، بما في ذلك العراق وايران، وان القرار الاخير في نهاية المطاف يبقى بيد الحكومة العراقية التي تقدر مصلحة بلدها. وقد كان الكاظمي ذكيا عندما أعلن في طهران « عدم قبول العراق السماح لأي جهة كانت بأن تستغل الاراضي العراقية منطلقا للهجوم على طرف ثالث »، في اشارة واضحة لتبديد القلق عند العاصمة الايرانية من المهمة التي تمتلكها القوات الاميركية المتواجدة علی الارض العراقية بشأن مراقبة الاداء الايراني كما عبر عنه الرئيس الاميركي دونالد ترامب عام 2018. ومن خلال اللقاء الذي جمعه مع الكاظمي كان قائد فيلق القدس المعني بالشؤون الاقليمية ومنها العراقية اسماعيل قاآني واضحا، عندما اعرب عن استعداده للتعاون مع الحكومة والاجهزة العراقية المختلفة لتعزيز الامن والاستقرار بما يخدم المصالح العراقية .
السؤال هو هل كانت زيارة الكاظمي لطهران ناجحة؟.
باستثناء أولئك الذين بحثوا في ربطة العنق وتقديم الرجل اليمنى على اليسرى؟ أجمع الاخرون على نجاحها لجهة حصول الكاظمي على ما أراده من الاوساط الايرانية المختلفة، من دون أن نستثني لقاءه المهم والاستراتيجي مع مرشد الجمهورية الاسلامية آية الله علي خامنئي، إذ كانت جميع المواقف مطمئنة ومشجعة وداعمة
بشكل عام .
تبقى على الحكومة العراقية استحقاقات ليست بسيطة، وهي مدركة لها، تتعلق بالخلافات الاقليمية والدولية وضرورة إبعاد العراق عن هذه الخلافات لما لها من تداعيات على الوضع الامني والسياسي والاقتصادي، فالجميع يدرك حجم الخلاف الايراني الاميركي، وهو خلاف عمره أكثر من 70 عاما، ولا يمكن حله بهذه السهولة، ولذلك يجب العمل على إبعاد تأثيراته عن العراق، وعدم السماح لأي من الطرفين باستغلاله من أجل الاضرار بالمصالح العراقية . أما الخلاف الايراني السعودي – الخليجي، وإن كان أقل شأناً، فإنه لعب دوراً لا يقل خطورة عن سابقه في التأثير في المصالح العراقية، ولذلك يجب على العراق اقناع جميع المعنيين باستبعاده عن هذه النزاعات، واقامة افضل العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بعيدا عن النزاعات والخلافات الاقليمية .
مثل هذه التصورات قد تكون – بنظر البعض - بعيدة المنال، لكنها تكون ممكنة اذا تم تبنيها كقواعد اساسية في الامن القومي، وفي السياسة الخارجية العراقية .