التلوث السردي

ثقافة 2020/07/28
...

محمد جبير
 
ليس هناك وقت فائض عن الحاجة يمكن الاستغناء عنه في قراءة أعمال تنسب إلى السرد زوراً وبهتاناً، في وقت ضاعت فيه المحدّدات والضوابط العامة للنشر، وعدم الشعور بالمسؤولية تجاه الآخر أو تجاه الذات الكاتبة، لا سيّما مع استسهال النشر وكثرة الدكاكين التي لاتبحث عن الجودة الإبداعية، وإنّما عن الجودة المادية التي يدفعها الكاتب لدور النشر مقابل نشر مخطوطته والوعود بالترويج لها.
لكن السؤال الذي يمكن أن يُطرَح هنا هو: هل يحتاج الكاتب في نشر كتاباته إلى التوسّل بتلك الوسائل بغية الوصول إلى القارئ؟ 
أم أنّه لا يفكر بالقارئ بقدر ما يفكّر في  تأبّط 
كتابه؟، هذا النمط من الكُتّاب هو السائد الآن في المشهد الثقافي العام، وقد يشغل كلّ الأماكن الثقافية، ويتصدّر الواجهات والمنصات ويزاحمك حتى في خلوتك أو عزلتك الإبداعية التي تريد أن تنأى بنفسك عن هذا التلوّث السردي والحفاظ على ما تبقّى من نقاء
السرد.
يبحث كُتّاب النقاء السردي في كلّ صغيرة وكبيرة في شأن الكتابة للإمساك بجملة الابتداء التي تشعل جذوة الانسياب السردي عبر التفكير في بنية الجملة السردية القابضة على المتلقّي، ويبتعد عن كلّ ما يجذبه لمنطقة التدوين الذاتي أو الحكائي ليبقى متمسّكاً بالسرد، 
وهي الخطوة الأولى التي ينطلق منها السؤال الروائي في لماذا وكيف ولمن يكتب؟ وقد تكون هذه الأسئلة غير حاضرة بشكل صريح، لكن حضورها موجود وفاعل في البنية السردية للنصّ.
هذه النصوص تبقى علامات مضيئة لايمكن تجاوزها بوجود الكمّ الملوّث للسرد النقي، والمتلقّي الفاعل قادر على فرز تلك النصوص التي تشكّل علامة مهمة في ذاكرته القرائية والحفاظ على تلك المكانة المميزة على الرغم من تقلّبات الزمن وتراكم الإبداع وتنوعه، يسحرنا ثراء النصوص الباهرة التي تنتجها العقول الإبداعية المدركة لمعنى الكلمة، وتحزننا وتشعرنا بالخيبة تلك النصوص الهابطة التي تدمي القلب وتدمع العين تشوّه المنظر الإبداعي العام، وتشتّت ذائقة المتلقّي أو تلوثها بالأحرى، مما يضع تلك الأعمال وكُتّابها في دائرة الإهمال والنسيان والتجاهل، والهجوم على المتلقّين بشتى مشاربهم وأهوائهم، ويتهمون النقد بالقصور عن المتابعة أو التخلّف عن اللحاق بركب تلوّثهم
 السردي.
قد يرى بعضهم في الكمّ الهائل للتلوّث السردي أنّه يحجب الصورة عن الباهر في الإبداع والاحتفاء به، فإنّه واهم في ذلك، إذ أنّ النصوص الإبداعية المتميزة تفرز نفسها عن التلوث، ويبقى بريقها جاذباً للمتلقّي، ومستحوذاً عليه وممسكاً به بمتعة وتشويق عاليين، فلا خوف ولاحزن على الإبداع، وإنما الحزن على ماينتج من ملوثات تريد أن تجد لها موقعاً في صفّ الإبداع.