مثلما يُفرضُ (الدين) على المولود، يُفرضُ (الجيل) على الشاعر!! هل بالغت؟ ربما!، ولكن حين أعني الشعرية العراقية تحت ظل المركزية السلطوية، من المرحلة البعثية حتى انهيارها، فلا أظنني مبالغا، ولو كنت كذلك فآتوني بكتاب نقدي عراقي المنشأ غاب فيه مصطلح (الجيل الأدبي)، ويا ترى ما الجيل الأدبي؟، يقول المعجم النقدي، هو: مفهوم يشير إلى مجموعة من الأدباء الذين لهم العمر نفسه والذين يفترض مِنْ ثَمَّ أنّهم عانوا وعاشوا الأحداث نفسها والظروف والمحيط نفسه، ولا شأن للدلالة النقدية العراقية بالدلالة الاصطلاحية المعجمية: لا في ما يخص مصطلح (الجيل) حسب المعجم الفلسفي أو الاجتماعي ولا في ما يخص المصطلح المركب (الجيل الأدبي)، فهو قد أخذ على عاتقه ملاحقة أرشفة الأدباء ضمن سجلات نقدية موثوقة وذات صبغة مركزية.
فالجماعات المتعددة سبقت الوحدانية التجييلية: متى ظهرت جماعة كركوك؟ ولِمَ وقف أزاءها (الجيل الستيني) موقفًا سلبياً، كما وقفوا أزاء الرواد، ولِمَ انتفض فاضل العزّاوي لأبناء جلدته؟، وهل علينا أن نصدّق الموجة الصاخبة، التي قزّمت – نوعًا ما – منجز جماعة كركوك كما قزمت الرواد؟، بل لِمَ غابت الجماعات – أصلًا - وظهرت مكانها مركزية (الجيل)؟، وهل كانت سُنّة شعرية أم نقدية؟، صحيح أن البيانات الجيلية هي بيانات شعرية، ولكن هل على النقاد الإيمان بما يتمناه الشعراء؟!، لا أدري إن كان هناك ثمة ناقد (ذمّي !)، وصحيح – أيضًا– أن الأكاديمية العراقية أسهمت إلى حد كبير في ترسيخ المصطلح التجييلي، على وفق النغم العشري، ولكن ليس بدافع معرفي بقدر ما هو (إسقاط فرض) أكاديمي يسد فراغ (الموضوعات) للمرحلتين: الماجستير والدكتوراه.
وتعالوا لنتحاور على المكشوف: لِمَ غابت مركزية (الجيل) مع غياب مركزية السلطة؟!، هنا سينطلق كلام جاهز ومدوزن يشبه دوزنة العشرية التجييلية: إن القرن الحادي والعشرين وتصفير العداد الزمني من الأعداد العشرية هو ما أدى إلى غياب المركزية الرقمية. ولو حللنا هذه الإجابة في المختبرات العلمية لتبيّنَ كم أنها مصابة بفقر معرفي وهبوط علمي!، أيعقل أن المراحل السابقة كان يتحكم بها عدّاد السرعة الزمنية!
(ستيني/ سبيعيني/ ثمانيني/ تسعيني)؟، أيعقل أنّ النقاد كانوا يفصّلون الشعراء حسب مقاسات الزمن المنتظمة؟، أنا شخصيًّا مؤمن أن الأمر ليس بهذه السهولة وينطلق من أنساق كانت تتحكم به وأهمها (مركزية السلطة) = (مركزية الجيل)، فهيمنة بعد آيديولوجي أوحد لا شريك له من أهم الأنساق المؤدية إلى غياب التعددية، وما ظهر منها في التسعينات ما هي إلّا ضمن مباركة السلطة كضد نوعي يضمن التمدد الطبيعي لها، كما ظهر على مستوى الدين والرياضة والغناء والصحافة وكذلك (الشعر) بل ظهرت (زبيبة والملك)، وبعد انهيار النظام المركزي والبعد الآيديولوجي الأوحد غابت مركزية الجيل الزمنية وظهرت التعددية المكانية والهوياتية: (ميشا) (تامرا) (مصطفى جمال الدين) (الحبوبي) (هيت) تشظي الهوية المركزية، هو تشظي للهوية المركزية الأدبية، وأصبح الأسلوب الشعري والسردي يتغازلان مع الهوية الفرعية، بل يؤمنان بها ويفتخران: هل أصغيتم إلى شعر الكبير كاظم الحجاج ما بعد الاحتلال؟ ألديه قصيدة واحدة تغيب عنها (البصرة)؟
ربما نجد عند بعض الشعراء من يتغزل بوحدة العراق ومعانقة (الجبل للهور)، ولكنها تشبه (الصلاة الموحدة) عند رجال الدين السياسيين يصلونها بنية (النفاق الديني) قربة إلى مصالحهم الحزبية. لقد غابت مركزية الجيل وغاب معها كاتب التقارير النقدية وظهرت تعددية الجماعات الأدبية التي تتكئ على ثيمات رمزية تاريخية تؤطر هويتها الاجتماعية والثقافية، وهي هويات لم تنتج تمايزا أسلوبيًا يمكن أن يحدد هوية جماعة عن سواها.
فالجماعات الأدبية أصبحت جماعات نقابية لا ثقافية.