د.عبد الواحد مشعل
يكشف لنا تاريخ الحركة النسوية العراقية منذ عشرينات القرن العشرين عن تصاعد دورها الاجتماعي والسياسي، ومشاركتها في الاعتصامات الوطنية للمطالبة بحقوقها ومناصرة الفئات الأخرى، كما كان صوتها مرتفعا إبان العهد الملكي سواء من خلال المشاركة في التظاهرات الشعبية الكثيرة، والتي سقط فيها العديد من الشهيدات، منهن ما عُرفت بـ "بطلة الجسر" سنة 1952 ، أو من خلال تدوينها الرسائل الاحتجاجية ضد أوضاع كانت قائمة آنذاك، كما تمكنت المرأة من إصدار العديد من المجلات النسائية منها (ليلى) التي كانت تحررها "بولينا حسون"، فضلا عن تنظيم مؤتمرات تعنى بحقوق المرأة، ولعل أبرزها مؤتمر المرأة العربية الثاني الذي عقد في بغداد عام1932 ، وهو أول نشاط موسع ومنظم للمرأة العراقية، إذ بذلت ناشطات أدوارا فاعلة في هذا المجال لعل أبرزهن أسماء الزهاوي، فضلا عن ذلك أسست المرأة العديد من المنظمات النسوية منها (منظمة رابطة نساء العراق) سنة 1944 ، ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة التي أسستها الطليعة التقدمية من النساء وقد ضمت نساء من مختلف فئات المجتمع العراقي. وبعد عام1958 كانت الدكتورة نزيهة الدليمي أول وزيرة عراقية تتبوأ مثل هذا المنصب، كما تصاعد نشاط المرأة في الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كما أنها حققت مكاسب في البرلمان العراقي بعد 2003 عن طريق
"الكوتا".
أهمية دور المرأة الأسرة والمجتمع
كلما تطور المجتمع واتسعت قنواته التفاعلية تصاعد واتسع دور المرأة في المجتمع، متأثرة بالأفكار التحديثية الداعية الى رفع وعي المرأة بمكانتها المجتمعية وأدوارها في الحياة السياسية والاقتصادية والفكرية
، مقترنة بسيرورة الحياة في العالم المتغير الذي بات يؤكد ليل نهار على المساواة بين الرجل والمرأة، وعلى الرغم من الالتباس الذي شاب هذه الدعوات وربطها بواقع المجتمع وطبيعة الدين والعادات والتقاليد السائدة في مجتمع ما، تبقى مسألة مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية مرتبطة أولا بالحاجة الاقتصادية لعملها، وثانيا بضرورة مساهمتها في تنمية المجتمع، وهي مسألة باتت تحظى بالأهمية في المجتمعات التقليدية والحديثة على حد سواء مع وجود الفروقات الحضارية بين مجتمع وآخر، والتي تكون المرأة فيها قد خسرت هنا، وربحت هناك، في أجواء ترسمها منظومة القيم السائدة في الأسرة والمجتمع
، ففي المجتمعات التقليدية.
لا تزال المرأة تستفيد من ايجابية وظائف الأسرة النفسية والاجتماعية، بينما يكون هذا الشق في المجتمعات المتقدمة مفقودا الى درجة كبيرة، ما جعلها تدفع فاتورة باهظة من الوحدة والاغتراب، إلا أنها في جانب آخر أثبتت حضورها في المحافل الاجتماعية والثقافية
، كفرد يمتلك الاستقلالية والحرية، والمرأة العراقية تواجه تحديات متنوعة، إلا أنها تمكنت خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين أن تحقق حضورا فاعلا في مجال التعليم والعمل الوظيفي وان تتبوأ مناصب إدارية مهمة في السُّلم الوظيفي الرسمي وغير الرسمي، كما أنها دخلت القطاع الخاص محققة في ذلك نجاحات نسبية، متجاوزة بشجاعة، الكثير من المصاعب التي اعترضت
طريقها.
دور المرأة في المرحلة الحالية
لا شك أنَّ دور المرأة في المرحلة الحالية تراجع كثيرا عما كان عليه في الماضي، وقد يستغرب البعض ذلك حينما يرى أن المجتمع العراقي أصبح أكثر انفتاحا وتفاعلا مع العالم، ولاسيما بعد أن أصبحت الوسائل الاتصالية الحديثة في متناول الجميع، فهذا الانفتاح أوقع المجتمع بكامله أمام تحديات ضخمة
، فعلى الرغم من اتساع نطاق الحريات الفردية وتفكك الكثير من العادات والقوالب السلوكية التقليدية التي كانت تحاصر وتعزل وتهمش المرأة، فإن المؤشرات الواقعية تقول إن دور المرأة تراجع اجتماعيا وثقافيا ضمن محيطها المتدهور بعد سلسلة طويلة من الحروب والأزمات
، وغياب السياقات الثقافة الاجتماعية وتقاليدها التي كانت تضع المرأة الى جانب الرجل في الوعي الاجتماعي والشعور بمسؤولية المساهمة في التحول الحضاري، فلم يعد الجيل الجديد من الذكور والإناث معا مهتما بحالة الإبداع الفكري والتفاعل الثقافي الذي يسير بالمجتمع نحو التطور والتقدم الاجتماعي، إذ يواجه الجيل الجديد كثيرا من المشكلات المتصلة بتفكك سلطة الأسرة،
فلم يعد للأب والأم تلك الوظيفة التربوية في مراقبة سلوك الأبناء وتقويمه، فقد خلقت وسائل الاتصال الحديث عوالم افتراضية بات الفرد منغمسا فيها، فكل فرد له دائرته الخاصة في التعامل مع محيطه افتراضيا، فأضر ذلك بقواعد التربية الأسرية وخرجت السيطرة من يد الأب والأم الى درجة كبيرة، ومع هذا فإن كثيرا من النسوة تمكنَّ من إيجاد أجواء ثقافية أو اجتماعية من خلال المنظمات النسوية والمنتديات الثقافية، بصفتها مجالا حيويا للتعبير عن آرائهن،
إلا أن هذه المحاولات، بقدر أهميتها الاعتبارية في إعادة دورها الاجتماعي الايجابي، فإنها لم تستطيع أن تتجاوز القواعد التي أسستها وسائل التواصل الاجتماعي، والتي وضعت المرأة في موقع غير الموقع الذي تتمناه من حيث تنظيم العمل النسوي الاجتماعي والثقافي، حتى وقعت المرأة في ازدواجية واضحة بين شعورها بالمسؤولية تجاه مجتمعها وبين بلورة ثقافة تعزز الفردية والأفكار التي تكاد تكون خارج طموح دور المرأة في النهضة الحضارية، وقد يكون هذا الواقع مرتبطا بتداعيات اجتماعية وثقافية يعيشها المجتمع بفعل أزماته الاقتصادية والاجتماعية
، والتي انعكست سلبا على منظومة القيم الاجتماعية، وموجهاتها السلوكية حتى أصبح دور المرأة دون طموحها، وبالتأكيد فإن ذلك ليس غائبا عن وعي المرأة،
وهي لا تزال تحاول إيجاد مناخ ملائم تتمكن من خلاله من المساهمة في بناء المجتمع والنهوض به
، وهو شعور يعيش في وجدان كل فرد عراقي، إلا أن الظروف المعاكسة لا تزال تفعل فعلها في الحيلولة دون ذلك، ما يستوجب على المعنيين في إدارة المجتمع
، وضع خطة تنموية تعيد الأمور الى نصابها الصحيح، بما يعزز قيم المواطنة في نفوس العراقيين جمعيا نساء
ورجالا.