علي حسن الفواز
النقدُ مسؤوليةٌ وقوةٌ ووعيٌ، مثلما هو فعلٌ تأهيلي يدركُ صاحبُه أسبابَ العلةِ، وجدوى القراءة، وليضع نفسه أمام خيار مفتوح للمواجهة.
هذا التوصيف ينطبق على الاجتماع والثقافة مثلما ينطبقُ على السياسة، لأنّ الممارسة النقدية تقوم على ثنائية الكشف والتقييم، وهذا ما أكسبها أهميةً في التعاطي مع المشكلات التي تواجهها "البنيات المعرفية" والبنيات الاجتماعية والسياسية، ومنها ما يتعلق بمؤسسات الحكم وإدارات العمل في مؤسساتها المتعددة.
مسؤولية النقد تحتاج الى التأهيلية، والى قدرات وإمكانات تتطلبُ درايةً بفاعلية الخطاب النقدي، وبآليات النظر الى السياقات التي يعمل فيها النقد، بعيدا عن ردود الفعل، أو الحسابات والحساسيات التي تجعل من النقد وكأنه ممارسة في الخصومة الاجتماعية والثقافية، أو تعبير عن أزمة نفسية وسياسية تتعلق بهذا الطرف أو
ذاك.
التجربة السياسية العراقية من أكبر التجارب التي عانت من "رعب النقد" ومن تعقيدات الممارسة النقدية، وعبر مرجعيات مختلفة، بعضها يخصّ رفض الخيارات المتعددة، والبعض الآخر يتعالق مع الكراهية والتقاطع، أو عقدة فقدانه لامتيازات السلطة، وثمة من حاول أن يجعل من " الخطاب النقدي" طريقا للبحث عن الفرص، أو محاولة للتضليل، أو ربما لقطع الطريق وتشويش الرؤية على من يتهمه بالانتهازية وقصر النظر وضعف القدرة على الصراحة والمواجهة..
النقد والصراع السياسي
الممارسة النقدية ليست بعيدة عن الصراعات السياسية التي تحكم العراق منذ عام 2003، والتي ارتبطت بصراعات محلية، واقليمية ودولية، فضلا عن ارتباطها بمصالح وحساسيات تحولت الى مواقف والى خنادق، تغذت فيها الكراهية والتعصب، وبعضها كان سببا في تحولها الى مظاهر للعنف والإرهاب والتكفير، لكن ماجعل هذه الصراعات أكثر خطورة، هو ابتعادها عن ضرورات النقد العقلاني ومسؤوليته، ولتكون أكثر تأثيرا على التوافق في تداول مفاهيم تخصّ الدولة والمجتمع والحرية والديمقراطية والحقوق والتنمية والهوية والعلاقة مع الآخر، وحتى بطبيعة الخطاب النقدي، وبأهليته، وبجدواه في أن يكون مشروعا تنويريا للكشف والتقييم، وليس للتعطيل، وللتعبير عن "النقمة السطحية" كما يسميها أمين معلوف، أو عن تضارب المصالح، لاسيما بين جهات تشترك في العملية السياسية، أو بين جماعات وأشخاص ينتمون الى الفضاء السياسي أو الإعلامي، والذي تحوّل عند البعض –للأسف- الى خطاب انتهازي وطفيلي، غايته البحث عن المغانم، والتزلف الى هذه الجهة أو تلك، أو محاولة للتسقيط، وتغويل المشكلات، وبما يجعل أصحابها وكأنهم يشبهون أبطال مسرحية "مشعلو الحرائق" لماكس فريش، والذين لا شأن لهم سوى التخريب والتضليل وتعطيل مسارات الحياة والحب
والأمل...
إن مسؤولية النقد ليست بعيدة أيضا عن الأخلاق، فبقطع النظر عن علاقة السياسة بالمصالح، فإن مايجعل هذه السياسة فاعلة ومؤثرة في حياة الناس، هو الالتزام بمشروعية العمل ومهنيته، وبأن يكون القيّمون على الخطاب السياسي بمستوى الالتزام، وهي قضية أخلاقية في جوهرها، تنعكس من خلال التعاطي مع النقد ذاته، بوصفه خطابا في القراءة وفي الكشف، وفي توسيع مديات المعرفة، وإضاءة المسكوت عنه، والذي يعني بيان الحاجة الى مسؤولية النقد في إدامة عملية التنمية، وبناء مشاريع الديمقراطية ومؤسساتها، فضلا عن دورها في نقد مظاهر الفساد والترهّل والعجز وفشل في إدارة ملفات السياسة والاقتصاد والخدمات وغيرها، والى الارتقاء بالصراع السياسي الى مستوى جدل الأسئلة، والبحث عن آفاق تتسع للتغيير ولتحويله الى ممارسات عقلانية، تُسهم في إغناء رهانات العقل النقدي، بعيدا عن العشوائية وعن العنف وعن الكراهية وطرد الآخر، وهو مانحتاجه اليوم بمواجهة أزمة الخطاب السياسي، من خلال المعرفة، والفهم، وكذلك من خلال إنضاج الخطاب النقدي ليكون جزءا من المسؤولية، وجزءا من الضرورات الكبرى التي تستلزم توسيع أسئلة النقد، الأسئلة التي تخصّ واقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي والإعلامي.