جميل الشبيبي
أعد الشاعر حسين عبد اللطيف ديوانه الأخير (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) للنشر قبل وفاته بفترة وجيزة، وكان يطمح أن يراه مطبوعا، لكن الموت طوى حياته في العاشر من تموز عام 2014، ليبقى هذا الديوان مؤجلا حتى العام 2017، حين طبع في دار أزمنة، لكنه بقي غريبا عن وطنه وأصدقائه سوى بنسخ محدودة وصلت إلى أسرة الشعر وتم توزيعها بين بعض أصدقائه.
يضم الديوان 89 قصيدة، ويبلغ عدد صفحاته 205 صفحات، ليمثل أكبر مجموعة شعرية أصدرها الشاعر، الذي تميز بقلة إنتاجه نسبة الى التجربة الشعرية الطويلة التي بدأها منذ أواسط ستينيات العشرين عندما نشر قصيدته الأولى عام 1967، ونسبة إلى نشاطه الأدبي المتميز الذي اتسم بالتفرّد في تكوين التجمعات الثقافية في البصرة حيث أسس عام 1989 ملتقى الجمعة الأدبي وملتقى الخميس في بداية الألفية الثالثة 2000- 2001، (حسب السيرة الأدبية التي أصدرتها أسرته اعتمادا على معلومات كان قد كتبها الراحل بخط يده)، وقد كان الشاعر مشجعا وراعيا بشكل جاد للأجيال الأدبية الشابة في مدينة البصرة.
تضم هذه المجموعة تجربة حياة مفعمة بالآمال والمخاوف واليأس، فيها الاحتفاء بالإنسان وهو يدفع عن نفسه الخوف والفاقة ومألوف الحياة، وفيها تشوف الإنسان وهو يتمثل الطبيعة التي تعطي من دون أن تنتظر جزاء.
الشجرة المورقة في قصيدته (في النهاية الصفر) التي وردت في الصفحات ما قبل الأخيرة في هذه المجموعة الشعرية، يسرد الشاعر بضمير المخاطب، ملحمة العمر الباحث عن الخلود مخاطبا كلكامش العراقي وهو يواجه عالم الأهوال: (واجهت المصاعب وتحديت الأخطار، صرعت خنبابا وحش الغابة، وقتلت الثور السماوي، ولم يفت في عضدك غضب الآلهة وسخطها... ص195)، لكن كل ذلك يذهب سدى فقد (وخز الشوك يديك، لتعود بعد ذلك خائبا صفر اليدين ص197).
لكننا على الرغم من ذلك نقرأ في العديد من قصائد الديوان تمردا وعصيانا على حالات الحزن والاغتراب تمثل اتجاه الذات نحو الالتحاق بعالم الطبيعة والأحياء والكائنات الغامضة من خلال حوار معهم أو من خلال تشوفات عرفانية فيها تساؤلات وجودية عن معنى الحياة ومصائر البشر، وكل ذلك يحيل إلى أجواء الستينيات الصاخبة التي هجر فيها الشعراء واقع الحياة واهتموا ببناءات فكرية وتساؤلات مرمزة عن جدوى الحياة بعد الانتكاسات التي ولدتها الانقلابات الدموية في العراق وضياع هوية المثقف وانطفاء أمله في حياة جديدة متغيرة.
في قصيدته (وعودها كاذبة وتكلف غاليا) نلحظ أن الخطاب موجه إلى ذات متعالية، غائبة ولكن فعلها واضح ومترسخ على الذات، والخطاب بمجمله خطاب هجاء، ليس فيه وجهة نظر أو موقف من (الحياة) ليس هناك سوى نفي متكرر لأفعالها الخيرة فهي:
لا الليلك ولا السوسن
الدفلى فقط
وهي وإن بدتْ كريمة فإنها لا تعطي إلّا النزر اليسير،
ويتحدد خطاب الهجاء في هذه القصيدة من مضمرات تكرّسها الذات بمواجهة اللامبالاة التي تتحكّم في حركة الحياة تجاه الكائن.. إذن ماذا يريد الشاعر وهو يراكم حقائق معروفة للجميع؟؟، ماذا يريد من هجائه المر لها وهي غائبة عنه وغافلة عن هجائه وحتى شتائمه (ابنة الكلب هذه:). وهو يعرف طبيعتها (لا عدوة ولا صديقة).
إن تقرير ما هو قائم في كل تفاصيل القصيدة، ينحو إلى الرثاء المبطن للذات وهي ترى حياتها قد تبددت بفعل ضربات (تحت الحزام) :
ستجرفنا إلى وادي النسيان
لكي ترمينا في هوته في المرة المقبلة
ثم يسرد تفاصيل لأفعالها المخرّبة للذات، بمقابل عطايا قليلة :
ربما في الشتاء
ستمنُّ علينا أيضا بنار ضئيلة شاحبة
وحتى لو كانت نارها هذه أنيسة
فهي هزيلة كنباح الكلاب
ليكرّس انتقال الخطاب إلى ضمير الأنا الجمعي مفهوما عاما لهذا الهجاء وكأنه عزوف عن الحياة واستسلام لقدرها وجبروتها المدمر، ولا يكتفي الشاعر بهذه السعة في وجهة نظره عن الحياة التي تقابل الموت في معناها الواسع، بل يلجأ إلى بناء هوامش تتناص مع شعراء أجانب يرون فيها ما يراه الشاعر :
هامش من سيفرس:
صيف عام 1923 ماتت
في حمامها النجمة ليلى ريميني
وجدوها غارقة في العطور
ولم يكن الماء في الحوض قد برد بعد
بينما كانت بالأمس القريب
تنظر إليّ بعينيها الخاويتين في دار
الخيالة
إن ظاهر الخطاب في هذا الهامش يُكرس هجاء الحياة والعزوف عن مباهجها، لكن بالتأمل في الجمل الشعرية سنلمح تعلقا بالحياة بدلا من العزوف عنها، يبدو ذلك جليا في هذه الجملة: (غارقة في العطور)، التي تشي بحب الذات وهي تظهر للآخرين حتى في موتها وهي في قمة تألقها، وكذلك من الصور المؤطرة للموتى (والمعلقة في غرف الاستقبال)، ونلمح التعلق بالحياة أيضا في طموح الذات الناطقة بلسان الجمع في إزالة (لا) من الجمل التي تتصدرها كي تتحقق الجملة من دون لاءاتها، فالمقصود هنا هو الجملة الأسمية منزوعة اللا :
لا هفهفة حمامة
ولا رفة سعفة
ولا اندياح موجة
ولا تفتح زهرة
ولا صخب ناس في أعراسهم ومسراتهم
ويتعمق رثاء النفس بالحزن العميق عليها وهي تعيش نهايات عمرها :
لكن العلة هنا في النهايات
والحزن أعمق الآن
والريح تطرق الأبواب
واستثمار كلمات الحزن، وأعمق، والآن، بالعلاقة مع كلمة الريح، التي تعني جلب الأهوال والعذاب في إشارة واضحة إلى الموت، (وقد استخدمها الشاعر للإشارة إلى توقع المصائب في قصائده العديدة مثلما وردت في القرآن الكريم كإشارة شؤم وموت)، كل ذلك يُكرس رثاء شفيفا للنفس على وقع سياط الهجاء التي يُكيلها للحياة وهي في طريقها إلى مغادرة بيتها (الجسم الإنساني)، وليس هناك من بديل عند الشاعر، سوى حفظ الذكرى لمن أحببنا، والتمني بألا يكون ذلك (سدى وقبض ريح، خريف يضع يده على الوردة ويذويها، سياسة غير عادلة وغير رحيمة)، هي كل ما تتمناه الذات: حيث الحزن أعمق الآن.
وفي قصيدة الشاعر هذه إنجاز واضح في استثمار التضمين من قصائد مترجمة، جاءت منسجمة مع قصيدته وكأن المقطع المترجم جزء من القصيدة وجعلت العلاقة بينهما وثيقة، كما أن هذا التضمين يثير قضية مهمة تتعلق بترجمة قصيدة النثر العربية إلى اللغات الأجنبية، ويبدو أن الشاعر حسين عبد اللطيف قد تنبّه لها، فهل فكر شعراؤنا بهذه الإمكانية عند كتابة قصائدهم؟.
إن رحلة الشاعر في (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) تكشف مرارة الوعي وهو يتحرى الوجود ويكتشف الزيف والأخطاء القاتلة وتفكك العلاقات الحميمة، وضياع الآمال المؤجلة. وهي رحلة الكائن الأعزل في فضاءات مشاكسة، ومنعطفات حادة، تترك آثارها القاسية على الذات المفعمة بالأمل والأحلام والحياة البديلة.