مقاتلة الوحش التاجيّ

ثقافة 2020/08/07
...

ناتالي لورنس  ترجمة: جمال جمعة
 
عندما تفكر في الوحوش، قد تتخيل التنانين ملتفة بشكل مهدد فوق أكوام الذهب، أو الكيميرات ذوات رأس الأسد في الأساطير القديمة، أو الجثة المترنّحة لمخلوق الدكتور فرانكشتاين. الوحوش أشياء لا وجود لها سوى في مملكة القصص والحكايات الخرافية. إنها أشياء لدفعنا إلى التصديق. 

إننا نقص حكايات الغيلان لإخافة الأطفال كي يحسنوا من سلوكهم، أو حين ندلل أنفسنا بالانغماس في أفلام الهروب من الواقع الخيالية. بعد ساعتين من رحيل الوحش، وانتهاء الفيلم، هل سيعود العالم المضاء خاليًا من الوحوش؟ ليس 
تماماً.
ما يحدث في العالم الآن مع جائحة كوفيد 19 العالمية يوضح تماماً مدى استمرارية وجود الوحوش الشائعة، على الرغم من أننا قد نود الاعتقاد بأن العلم قد حسم كل شيء. القضية هي أن الوحوش ليست أشياء موجودة خارجياً، إنها تنبثق من داخل أذهاننا، وهي جزء لا يتجزأ من الطريقة التي نرى بها العالم. ثمة الكثير من الوحوش التي تلاحقنا في الوقت الحاضر.
الوحوش التقليدية، أو الوحوش التي في الحكايات عادة ما تكون موجودة "خارجاً هناك". إنها تأتي من أزمان وأماكن نائية، من أراضٍ غريبة تقع ما وراء تجربتنا اليومية، أو في زمن بعيد لا يمكنها الوصول إلينا منه. يتم تغليفها بحرص في داخل الكتب، والأفلام، والقصص، ووسائل الإعلام حيث يمكننا الاختيار بين الانغماس فيها أو رميها جانباً في أية لحظة، وحبس الوحوش بعيدًا. 
عادة ما كانت الخرائط تُرسم فيها أراضٍ تقع ما وراء العالم المعروف، مليئة بكل صنوف الأشياء الخيالية: رجال برؤوس كلاب، أكلة لحوم البشر، طيور العنقاء، أو دوابٌّ بحرية هائلة تتقافز عبر الأمواج. صنّف الخرائطيون في العصور الوسطى البقاع المجهولة بـتعبير: dracones hic sunt hic ( هنا توجد التنانين)، للإشارة إلى أن هذه المناطق كانت أماكن غامضة، حيث مخلوقات ما وراء الطبيعة تتربص. وإذا ما ضلوا طريقهم واقتربوا منها فسيتم استئصالهم بسرعة، كما هي الحال في عملية مطاردة الساحرات في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والتهور الهستيري في تنفيذ 
عمليات الإعدام العلنية.
لكن لماذا هذا؟ لماذا لا تأتي التنانين أبداً لتجثم فوق سقف مبنى البلدية، أو تتنزه الخيول أحادية القرن في حدائق الناس؟ لماذا لا تجد بُعبُعاً على الإطلاق عندما تنظر تحت السرير؟ حسنًا، التفكير في ماهية الوحش قد يفسر ذلك. الوحوش هي أشياء تجسّد قلقنا ومخاوفنا، تجتاز حدودنا وتقوم بمزج الفئات. إنها تكشف عن ماهية هذه المخاوف والقلق. نحن نمنحها أشكالاً مادية في خيالاتنا، لكننا كذلك لا نحب مواجهتها. 
لقد وضعناها دائماً بعيدًا عنا قدر المستطاع. فالحياة أسهل بهذه الطريقة. لكن في الآونة الأخيرة، على الرغم من ذلك، خصوصاً منذ القرن العشرين، تطورت الوحوش. لم تعد تلك الأشياء التي يمكن وضعها بشكل آمنٍ على مسافة ذراع منا. لم يعد بالإمكان استخدامها ببساطة ككبش فداء. لقد بدأنا ندرك أن الوحوش، أو التوحش ذاته، كان شيئًا يكمن في دواخلنا. 
وأننا نحن أنفسنا ننطوي على وحوش. هذا يوضح لماذا نستمتع بالانغماس في وحش الميديا كثيرًا. لأنها تتيح لنا مواجهتها مؤقتًا، والحصول على نشوة الخوف، ثم نسيان كل شيء عنها تحت ضوء النهار.
صناعة الوحوش هي أمر يفعله كل إنسان، من عناصر العالم وأولئك الذين تخيفهم تلك الوحوش. إنّ تجسيد الأشياء الخطرة والمزعجة في شيء يمكن شيطنته ودفعه بعيدًا، مثل الساحرات التي تُحرق فوق الأعمدة، لهوَ أسهل بكثير من التعامل معها كجزء لا يتجزأ منك أو من مجتمعك. الوحوش تتنوع إلى ما لا نهاية نتيجة لذلك. 
ليس لديها كلّها رؤوس متعددة أو حجوم هائلة، ولا المقدرة على نفث النار أو تمتلك سحنة لزجة غريبة. في بعض الأحيان، قد يكون الأمر عادياً للغاية النظر إليها. الوحش الذي يقلقنا جميعًا في الوقت الحاضر لا يمكن رؤيته على الإطلاق، ولا يمكن صده بسهولة. حتى عند غسل اليدين المفرط. في بعض الأحيان، يمكن أن تكون عوامل غير مرئية تُعدي الجسم وتفعل أشياء رهيبة به.
هذا لا يعني بالطبع القول إن الجائحة ليست حقيقية جداً وخطيرة جدًا. إن كوفيد 19 ليس خدعة، مهما كان منظِّرو المؤامرات على اليوتيوب يتقوّلون. 
لكن الفيروس التاجي ليس مجرد ظاهرة طبية، واقتصادية، وسياسية. كما أنه ليس ظاهرة سيكولوجية. لأننا حينها لن نسهم سوى في جعل الوحوش خارج نطاق الأشياء التي تخيفنا، لإنشاء صور مَهُولة من مخاوفنا الوليدة. وحالة مثل هذه الجائحة هي حالة يكون فيها الخوف شائعاً وحدود "الحياة الطبيعية" قد ألقي بها في داخل الفوضى. العالم يبدو وكأنه مكان غريب جدًا في الوقت الحالي، ديستوبيا واقع جديد مرير، يبدو أنه ليس لديه سوى احتمال ضئيل للعودة إلى الوضع الطبيعي الذي كانه من قبل، في أي وقت قريب. وهذا الواقع المرير هو ملعب للوحوش الجديدة.
لقد حاول البعض، بالطبع، ممارسة الخدعة القديمة لدفع الوحش "خارجاً هناك" جغرافيًا. لقد أظهرت الجائحة الكثير من العنصرية البائسة، الكامنة أو غير الكامنة في الغرب. تم إلقاء اللائمة في وجود الفيروس على الشرق، على البلدان التي نعدها غريبة عنا، والمكتظة بالناس الذين يتسوقون في أسواق رطبة خطيرة لإشباع عادات أكل الخفافيش الغريبة. والأسوأ من ذلك، يشتبه البعض في خطط مخمّرة مختبرياً للإطاحة بالمنافسة العالمية.
قد يشكّل انتقال الفيروسات الحيوانية المنشأ والمخاطر الصحية للأسواق الرطبة مسألة لخبراء الأمراض المُعدية. لكن هذا لن يغير من الافتراء على منطقة جغرافية كاملة على أساس هذه التصورات التي حدثت في بعض الأوساط. 
في بداية الجائحة، قبل أن تغلق البلدان الأوروبية، كان يُنظر إلى الفيروس التاجي على أنه عدوى غريبة، شيء حدث في الأماكن التي تناول فيها الناس أشياء مضحكة ويعانون من أمراض غريبة. لا تبدو هذه وكأنها مشكلة يتوجب أن نتعامل معها. لكن الوحوش هي أشياء تتجاوز الحدود بجميع أنواعها، بما في ذلك الحدود الاجتماعية والسياسية. وعندما تكون حدودنا مخترقة أيضًا، فسيشكل ذلك صدمة حقيقية، ويولّد انفجاراً بركانياً للعنصرية العرضية.
تُبرز التهديداتُ الشياطينَ الكامنة تحت قشرة الحياة اليومية: خيالات الكارثة تنتظر إطلاق العنان، الأحلام الكارثية، والمعارك النفسية من أجل البقاء، التي تكبحها الحياة الحضرية المريحة. إنها تكشف عن هوس الإنكار الذي يعيش جميعنا فيه، في فقاعاتنا الاستهلاكية المريحة. وهذا الأمر لم يكن مختلفاً. فالقطب المعاكس هو الهلع. المخاوف الباطنية من التدمير الكارثي الذي يجب اتخاذ جميع الإجراءات الممكنة ضده. خصوصاً تخزين لفائف ورق 
التواليت.
 "ناقلو العدوى الفائقون"، غاسلو الأيدي المهملون، والأشخاص الذين ينظفون حناجرهم يصيرون هم وكلاء الوحش الذين ينقلون التهديد الذي يتوجب 
ذمّه.
لكن الهلع بشأن التهديدات المحسوسة غالبًا ما يكون تمظهراً خارجياً لوحوشنا الداخلية. الانقسام بين الهَوَس والهَلَع تم استعراضه بوضوح من خلال الطيف بين الإنكار "إنه ليس أسوأ من الإنفلونزا" و"هذا سينهي معسكرات العالم". كلتا ردتي الفعل، إن وجدت، كانتا حاجزًا أمام اتخاذ إجراءات متضافرة ومتسقة على مدار فترة الانتشار.
الموقف الاكتئابي وحده، لا الهلع ولا الإنكار، يسمح بعمل منطقي. في الوقت الحالي، ينبغي أن نجلس مع وحوشنا المريعة ونقابلها وجهاً لوجه.
الوحوش هي تلك العناصر الفوضوية التي تدفعنا إلى فسخ وإعادة تشكيل الحدود. وهذا ما يحدث الآن: إعادة هيكلة عالمية على امتداد خطوط التفشي الفيروسي وتقدّمه. لقد تسبب في دفع التشظي عميقاً على المستوى الفردي، عبر غزو أجسادنا ذاتها، وإبقاء الأصدقاء والأسر بعيدين عنا. أيّ شخص يمكن أن يؤوي المرض بشكل لا مرئي. الأمر الأكثر رعباً هو أننا لا نعرف سوى القليل عنه: هذه هي الموجة الأولى من البيانات التي لدينا عن هذا الفيروس، ولا يمكننا أن نعرف على وجه اليقين ما سيحدث عندما يتم رفع الإغلاق، أو مدى تأثير ذلك على حياتنا الماضية قُدُماً. 
يمكن القول، إن كوفيد 19 قد تلبّس تماماً قالب الوحش الذي تخيلناه من قبل، في أفلام مثل (بعد 28 يومًا)، (أنا أسطورة)، وفنتازيات طواعين ما بعد الكارثة الأخرى. المرض الجامح ليس سوى واحد من زمرة الوحوش الحديثة (جنبًا إلى جنب مع السيكوباتيّ القاتل، و "Godzilla"  الذي يعمل بالطاقة النووية والذكاء الاصطناعي القاتل) التي يمكن أن تخبرنا بالكثير عن الباطن المذعور للحضارة الحديثة.
 
عن The Institute of Art and Ideas