في الأحداث الجسام تُعرف المدن العظيمة، وفي المنعطفات التاريخية يبزغ جوهر قدرتها على تجاوز المحنة.. هكذا تكون البلدان التي يتجذر عمقها في التاريخ ويوغل في الأصالة، ولبنان مثال حيّ على النكبة التي فتحت جراحاته عميقة الغور منذ الستينيات، مذكرة إيانا بأكثرها وجعا ونزيفا وقد تخطى حربه الأهلية سيئة الصيت، بنظام التحاصص والتغانم السياسي. هذا الكلام لا يأتي بمبررات المديح لبلدٍ ظلّت تتقاسمه الطوائفُ والأديان والأكاذيب الثورية منذ عقود، إنما يأتي من باب تلك القدرة العجيبة التي شاهدها كل من وطأت أقدامُه ترابها وتشرّبت روحه بدهشة المكان وابتسامة أهله على مختلف مشاربهم وانتماءاتهم، كواحدٍ من براهين قدرة هذا البلد أن يكون حيّا عصيّا على الموت والقهر. وقد حافظ اللبنانيون على مقومات التعايش بين مكوناتهم التي تبدأ ولا تنتهي بطريقة لافتة تؤكد تحضّرهم وحبهم للحياة، وإن جرى ذلك على حساب الرفاهية التي غابت بالتدرّج بسبب سوء الإدارة والزلل الذي يبثه اللصوص من السياسيين كلما أُشيعت استثمارات الديمقراطية الزائفة وهي تنشأ على أنقاض الفوضى والاستحواذ والتغوّل.
لا توسم بيروت بوصفها المناخ الأوفر حظاً من الجمال والطبيعة الخلابة والطقس المعتدل بعذوبته المعروفة التي جعلت من المدينة واحة سحرٍ للترويح عن النفس فحسب، إنما توسم بيروت بالمعرفة وصناعة الكتاب والترويج له على وفق تقاليد عملٍ للنشر احترافية هي الأقرب للتقاليد الغربية في صنع الكتاب وتداوله. بيروت إذن ثقافة وفكرٌ يمتزجان مع انفتاحها الشعبي، لا السياسي، مثلما تنفتح طبيعتها على شرق المتوسط بوصفها أيقونة للمحبة والجمال. انفتاح شعوبها على ثقافات العالم يتنافر مع طبيعتها السياسية التي غالبا ما تمثل أجندات للتخادم مع الأجنبي، الى درجة صار فيها قرارها السياسي مرهوناً برضى محيطها الإقليمي والدولي، لا المحلي الذي يجب أن يكون نقطة الانطلاق الأولى كما تشير البديهيات السياسية.
وعلى الرغم من ذلك كله، ظلت بيروت، المدينة الحلم للمفكرين ومنتجي الثقافة، بل للمضطهدين السياسيين وعلى مدى عقود حرجة هي من أعقد الفترات السياسية في المنطقة العربية، بعد أن وفرت لهم البيئة الخصبة والحماية اللازمة مثلما فعلت الدول المتقدمة مع المطرودين من بلدانهم بسبب الدكتاتورية التي يرزح تحت وطأتها مثقفو تلك البلدان الطاردة للكلمة الحرة وللموقف الحر، وقد وجدوا في لبنان ضالتهم التي ينشدونها. هذه المدينة العظيمة وفاجعتها غير المتوقعة، يتداولها اليوم الإعلام الغربي بطريقة غريبة ولافتة، فبعضهم من يرى فيها بقايا دولة تئن تحت سياط المراهقين الثوريين، وبعضهم من ينظر الى نسيجها بعين التشتت والضياع، بل إن بعضهم كتب في اليوم التالي لمحنتها ونزفها الجديد : «إن انفجار مرفأ بيروت يعني نهاية لبنان» حدث ذلك في النيويورك تايمز في اليوم الثاني الذي أعقب نشيجها ولونها الكالح الذي غطى الجمال الذي وهبه الله إياها.
بيروت التي انتصرت على الحرب الأهلية التي أرادها وصنع أوارها تُجّار السلاح ومُرابو الحروب، ستنتفض من خلال المعرفة والثقافة وتحضّر أبنائها الذين يتنفّسون رائحة الكتب بوصفها الباقية، وبوصفها العلامة التي تلتصق بروحها وجسدها، لا رائحة الامونيوم التي جاء بها الإهمال والمحاصصة ورجال اللادولة. رائحة الكتب في «مكتبة انطوان» بشارع الحمرا، أكثر تأثيراً على وجدان العالم من رائحة امونيوم خلّف دماً عبيطاً ستتذكره الأجيال العربية كعلامة من علامات الزيف السياسي الذي يأخذ شكل التغالب والتصارع بعد أن يبيع الوطن ومقدراته وأرواح أبنائه كلما استدعت الحاجة السياسية المفتعلة مزيدا من الانحطاط والخضوع والتسليم للأجنبي وأهدافه
القبيحة..