دروس حرب الـ (١٥) يوماً

آراء 2020/08/08
...

عبدالزهرة محمد الهنداوي
 
فرق كبير بين أن تدخل المعركة (أي معركة) بمعنويات عالية، مؤمنا بها، وبين أن تدخلها مهزوزا، غير مطمئن للنتائج، ففي الأولى ستخرج منتصراً، بصرف النظر عن طبيعة الأسلحة التي ستستخدمها في المعركة، سواء أكانت أسلحة تقليدية أم غير تقليدية، وفي الثانية، سيتمكن منك عدوك بسهولة وينهي المعركة لصالحه، ربما من الجولة الأولى او الثانية..
بهذه المقاربة، دخلت معركتي التي خضتها، مرغما، ولم يكن لي خيار، سوى قبول المنازلة، حتى آخر لحظة، فأما أن أكسبها، بما وطنت عليه نفسي، او أكون من الخاسرين، وكلا الاحتمالين، وارد وقائم بقوة.. فهي في نهاية المطاف، معركة، بين طرفين، لا شك أن أحدهما سيربح ويخسر الآخر..
وهنا أتحدث عن معركتي الضروس، مع فيروس كورونا، الذي هاجمني بغتة، معلنا الحرب من طرف واحد، إذ لم تنفع معه، كل الوسائل السلمية، التي كنت أسعى إلى انتهاجها، ومنها، التباعد القسري، وارتداء الكمام والكفوف، في الحل والترحال، فضلا عن التعقيم والتعفير، المبالغ به أحيانا، كل ذلك لم ينفع، فوجدت عدوي وقد أغلق كل السبل، وبدأ يهاجم بقوة وشراسة، في وقت لم أكن فيه قد أعددت العدة، لحرب لا أعلم مداها، هل ستطول أم تقصر، هل سيتمكن منّي عدوي، أم أن ما يقوم به ليس سوى استعراض قوة فارغة؟
وبدأت الحرب، بأول معركة، عندما شن كورونا هجوما مباغتاً، في ساعات الضياء الأولى، تمثل هذا الهجوم، باغلاق منافذ الاوكسجين، الذي انخفض إلى مستويات خطيرة، وفي تلك اللحظات الفاصلة، كنت أمام خيارين، أما أن أرفع الراية البيضاء ويأخذني عدوي معه كما أخذ آخرين قبلي، وهنا لن تكون لي أي قيمة تُذكر، او أصمد قليلا حتى تتكسر تلك الهجمات، لم يكن الأمر سهلا، فقد شعرت بغشاوة شديدة، وجحظت عيناي، ولكن مازال في قوس المقاومة منزع، وبعد قتال عنيف دام نحو ١٠ دقائق، تمكنت من الوقوف، والخروج إلى الهواء الطلق، ومارست بصعوبة، تمرينا تنفسيا، وقمت ببعض الحركات، عند ذاك شعرت بتحسن كبير، وهنا ترسخت عندي فكرة إمكانية الانتصار، طالما هزمت عدوي في أول جولة، هذا الشعور منحني قوة نفسية كبيرة، واستعدادا لتلقي الهجمات المتوقعة المقبلة، إذ من المؤكد، أن عدوا قذرا مثل كورونا لن يتركني، لاسيما بعد الهزيمة التي مني بها قبل قليل..
وهكذا تواصلت الهجمات الكورونية، في كل الأوقات، (وهن عام، ارتفاع في درجات الحرارة، جفاف فظيع في الفم والحلق، اسهال، رغبة في التقيؤ، مع سعال مثير للقرف)، وهنا، أصبح الأمر مختلفا، إذ يجب أن أضع خطة للمواجهة، على مستوى التكتيك والستراتيج، وهذا يتطلب تنظيم خطوطي الدفاعية بنحو محكم، وتهيئة ما لديَّ من أسلحة، وقد تطلب منّي ذلك، عدم النوم مطلقا لعدّة ليالٍ، لأني اكتشفت أن عدوي، يحاول جاهدا استغلال ساعات النوم لشن هجماته، وكانت أقوى تلك الهجمات قد تمثلت بمحاولته إغلاق منافذ الاوكسجين لأكثر من مرة، ولذلك كنت حريصا على تفويت مثل هذه الفرصة عليه..
وكانت الخطة التي وضعتها، تسير بمحورين، الأول يكون باستخدام الأسلحة التقليدية (الأدوية والعلاجات والعقاقير، ضمن البرتوكول العلاجي لفيروس كورونا، الذي اتفق عليه الأطباء) وقد كنت حريصا على الالتزام به بدقة عالية..
أما المحور الثاني، فتمثل باستخدام الأسلحة غير التقليدية، وهذه كان لها أبلغ الأثر في قهر العدو، وجعله يترنح، من شدة الضربات التي لم يكن يتوقعها مطلقا، ومن بين الأسلحة التي استعملتها بمهارة، تقوية الحالة النفسية، وكان هذا السلاح الأمضى، فبعد كل جولة قتال أخوضها، أشعر أني أصبحت أكثر عزيمة وأن نهاية الحرب باتت وشيكة، كما أنني كنت حريصا، على استثمار ساعات الفجر الرائعة، من الساعة الرابعة، الى السادسة صباحا، إذ أكون خلال هذه الدقائق في الهواء الطلق، أتأمل صفحة السماء المتلألئة بالنجوم الجميلة، فمثل هذا المشهد لم أتمتع به منذ سنوات طوال، فكان ذلك يعيدني الى أيام الطفولة 
النزقة.. 
وتحت قبة السماء الصافية والهدوء الذي لايعكره سوى "جعير" المولدات في ظل الغياب التام للكهرباء الوطنية! كنت أمارس بعضا من التمارين الرياضية وتمارين التنفس، وهذه كانت ترعب عدوي، الى ذلك كنت ألجأ الى بعض العادات القديمة، في مثل هذه المواجهات، ومنها استخدام عملية استنشاق بخار الماء لعدة مرات في اليوم، وهذه العملية كانت تمنحني هدوءا واضحا في عملية التنفس، وتسهيل نوبات السعال الحادة، ناهيكم عن تناول مشروبات الأعشاب الدافئة وبنحو مكثف، وكل تلك الأسلحة، لم يكن عدوي يتوقع توافرها في مذاخري، ما جعله مرتبكا، في هجماته اللاحقة..
ليس هذا وحسب، إنما الذي عزز من قدرتي على الدفاع والمقاومة، هو ذلك الدعم المنقطع النظير الذي تلقيته، من الأهل والأقارب والأصدقاء والزملاء على نطاق الوطن، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الموقف البطولي المشارك في المعارك بشكل مباشر، لأسرتي الصغيرة، التي بذل أفرادها جهودا غير مسبوقة، في الحرب ضد كورونا، فعلى الرغم من أنني كنت محجورا، إلا أنهم كانوا يقاتلون بشراسة، من خلف الأبواب، وهذا أعطاني، دفقا معنويا هائلا، كما انضم إلى الفريق المقاتل معي، ابنتا أخي غير مباليتين بمخاطر المعركة، وما قد تتعرضان له من بطش كورونا بهما، فهو عدو بلا أخلاق..
أما في تفاصيل المواقف الأخرى، فقد حملت لي الكثير من الدعم الواسع، فبين اتصال ورسالة، وسؤال، كان الهاتف يحمل إلي أجمل المواقف وأنبلها، من أصدقاء وزملاء كانوا على استعداد لتقديم أي شيء، ولا شك أن اتساع دائرة الدعم الكبير، من البصرة إلى ذي قار وواسط وميسان وبابل والمثنى والديوانية وبابل وكربلاء والنجف مرورا ببغداد وصعودا إلى الأنبار وديالى وصلاح الدين ونينوى، وصولا إلى أربيل والسليمانية ودهوك، أرعبت تلك المواقف عدوي كثيرا، وأشعرته باليأس والإحباط، ولم يعد لديه شيء يُراهن عليه، سوى بعض المواقف التي كان أصحابها يرتجفون، عندما يتصلون بالصدفة ويعلمون أني مصاب بالكورونا، فيغلقون الهاتف بصورة مرتبكة، ثم لم يعاودوا الاتصال بعدها!!
وهكذا استمرت المعارك الضارية بيني وبين جيوش (كوفيد – ١٩) ست ليالٍ، شهدت الكثير من عمليات الكر والفر، ولكن دائما كانت كفة الكر تميل لصالحي، إذ سرعان ما يتقهقر العدو، تاركا خلفه آثار قتال شرس وعنيف، ثم بعدها بدأت وتيرة القتال تتراجع، وهنا اكتشفت أن عدوي بدأ يترنح فعلا، ولكنه يحاول جاهدا التمسك بموقع بسيط هنا او جيب مظلم هناك، من خلال اثارة جلبة نوبات من السعال، بأوقات مختلفة، ولأنني اطمأننت الى حسم الحرب لصالحي، فقد بدأت بعمليات مسح وتمشيط هادئة لجميع المواقع التي أتوقع فيها تواجدا للعدو، من خلال الركون الى الهدوء، ومعاودة الأكل بعد توقف عنه لعدة أيام، وكذلك استطعت الظفر بعدة ساعات من النوم بين منتصف الليل وحلول لحظات الفجر الأولى، لتبدأ بذلك المرحلة الثانية من الحرب، وهي مرحلة القضاء على العدو تماما وإعلان النصر، الذي تحقق بنحو نهائي بعد حرب استمرت لأكثر من خمسة عشر يوما، بمرحلتيها الأولى والثانية..
إنَّ خوض حرب مثل التي خضتها ضد عدو غير مرئي، ولكنه ليس سهلا، فهذا العدو هز العالم بأسره، وأربك حسابات الدول العظمى، بعد أن فتك بها أيما فتك، لا شك أن حربا مثل هذه، أفرزت لنا وعلمتنا الكثير من الدروس المهمة، التي ينبغي أن نفهما بعمق، كي نفيد منها في المقبل من أيام حياتنا، التي كان عدونا يسعى لوضع حد لها، او على الأقل لتفيد منها أجيالنا المقبلة، في التعامل مع مواقف وحروب كهذه..
علمني عدوي "كورونا" أن الكثير من الأشياء التي لم نكن نعيرها أدنى اهتمام، ولكن الاصابة بكورونا، أشعرتنا بقيمتها وأهميتها، ومنها الاوكسجين الذي نتنفسه، كم هو ثمين، فكل لحظة من لحظات الاختناق، تجعلك مستعدا لأن تدفع كل شيء من أجل الظفر باستنشاقة اوكسجين تجعلك على قيد الحياة..
أما علاقاتنا الانسانية، فكم حريٌّ بنا أن نرممها ونجعلها في أحسن حالاتها، فقد حرمني عدوي، لنحو شهر من أن احتضن وأقبل أولادي، فلذات قلبي وهذا كان يؤلمني حدَّ الوجع... كما علمني عدوي، أن علينا أن نعيد النظر بجميع سلوكياتنا، سواء المتعلق منها بنظامنا الغذائي المبني على سلسلة من الأخطاء القاتلة، والأهم من ذلك، أن عدوي منحني فرصة كبيرة لإجراء حوارات معمقة مع الذات، والوقوف على مواطن الخطأ والخلل في الكثير من المفاصل.. وثمة الكثير من التفاصيل، التي شهدتها تلك المعارك التي خضتها مع فيروس كورونا على مدى ١٥ يوما، كانت حافلة بالكثير من الدروس والعبر والمواقف، كما أنها حملت في ثناياها الكثير من الجمال، ومثلا، في كل معارك الاوكسجين التي كانت الأشد، كنت رافضا بنحو قاطع، اللجوء إلى التنفس عبر جهاز الإعطاء، لأني كنت أتخيل عدوي يقف أمامي ضاحكا ملء شدقيه، منتشيا بالانتصار، وفي المقابل، تأثير هذا المشهد على معنويات الفريق المقاتل معي، الذي كان يزداد بأسا كلما رفضت أَٔخْذ الاوكسجين، وخرجت من المنازلة منتصراً..
ولعلَّ الأهم في كل تلك التفاصيل، هو أن يعيش الإنسان تجربة، لم يكن راغبا في خوضها، بل كان يخشاها او حتى مرعوبا منها، ولكن بعد خوضها والخروج منها منتصرا، سيكون أقوى في اي مواجهات أخرى مقبلة، ذلك أن المرء لايشعر بقيمة وطعم الحياة إلا عندما يكون عند حافة حادة من حوافها، قد تلقي به بعيدا عن هذه الحياة.. نتمنى السلامة 
للجميع..