لم يكن التاريخ إلا حكايات مهضومة في جوف القراطيس.. سرديات كبرى وصغرى أسس لها الحكي منظومته الوجودية، شفاهيات او مكتوبات.. حكايات أمدت التاريخ بنسغ الانبعاث وأخذ حيزه المادي والمعنوي، واقعاً واثراً في مخيال ومدركات الإنسان.
التاريخ بوصفه "حركة الزمن من خلال المجتمع" حمل انفعالاته وتأثيراته وتأثراته عبر الميدان الفكري والتأملي بعد أن غدا علماً تتحقق فيه الوثائق والمخرجات العلمية والسرديات في صيغة العرض والتلقي من قبل الآخر، نقلة نوعية أخرجت التاريخ من زاويته الضيقة في الانوجاد والتكيف وفق فرضيات السلطة، (التاريخ علم سلطوي وعن السلطة، يدور حول مقولتين سلطويتين، هما الانتصار والهزيمة، ينتج ويعاد انتاجه في مؤسسات سلطوية لاتقتصر في الرقابة جاذبة ماتريد ومبرزة ما تشاء وترغب، وبداهة، فإن ثنائية النصر والهزيمة، وهي سلطوية المنظور والغايات، تفضي لزوماً، الى تاريخين متعالقين، متباينين يحدث أحدهما عن منتصر جدير بنصره ويسرد ثانيهما سيرة مهزوم لايليق بنصره) ( فيصل دراج/ الرواية وتأويل التاريخ/ ص82).
وظائفية الرواية كفنٍّ جمالي فكري عندما يتعكز على المدونة التاريخية تتجلى في التحدث عن الأرواح الممزقة والتغني بالقيم الانسانية بموضوعية تحمل نبلها وقيمها السامية، لا تحيزات ايديولوجية تمسخ الحقائق وتحجل بقدم واحدة، مبصرةً بعين واحدة، تغمط رؤية العديد من الحقائق وفق فرضية الغالب والمغلوب..
الرواية بفعلها التخييلي تعمل على بث الرفعة في نسغ التاريخ وعقد توازناته كمعادل موضوعي له، بأنساقها الرمزية والثقافية، تبث روح الفن والجمال لاكمال دائرة التلقي وخلق تصورات جديدة في عوالم الحقائق واليقينيات التي لا تصل الى اطلاقيتها كمسرودات تاريخية، بل تظل قابعة في فضاءات التأويل والاجتراحات المعرفية ذات المقصديات النسبية.
" الديوان الاسبرطي" رواية لعبد الوهاب عيساوي والصادرة في العام 2018م، اعلنت مؤسسة البوكر العربية عن فوزها بجائزتها للعام 2020م.. امتدت صفحات الرواية لـ (388) من القطع
المتوسط.
اولى العلامات السيمائية ذات الوظيفة العلاماتية والاشهارية والابلاغية هي "العنوان"، تخبرنا المدونة التاريخية ان "اسبرطة" مدينة يونانية كانت حاضرة البحر، تأسست في القرن العاشر (900)ق.م ذات مجتمع يتبع النظام العسكري، أنشأت أبناءها على القتال.. لكثرة الحروب التي خاضتها ضد "أثينا" حتى توحدت المدينتان ضد غزو الفرس في القرن الخامس (400)ق.م والذي عرف بالحروب
الميدية.
الرواية تؤرخ للحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر في العام 1830م.. الجزائر غدت معادلا موضوعياً لأسبرطة اليونان فكلاهما حاضرة الماء.
يفتتح عيساوي روايته بموجه قرائي للشاعر الالماني "غوته" في "الديوان الشرقي" يذكر فيه:
)الشرق والغرب على السواء، يقدمان لك أشياء طاهرة للتذوق.. فدع الأهواء، ودع القشرة/ واجلس في المأدبة الحافلة/ وما ينبغي لك، ولا عابراً/ أن تنأى بجانبك عن هذا الطعام)، يصف الروائي الشرق كمأدبة حافلة بما لذَّ وطاب من الأطعمة.. الفريسة كبنية مضمرة في خطاب ايديولوجي تسيره عوالم الكولونيالية.
استدعاء الوثيقة التاريخية بعد مرور نحو مايقرب من قرنين من الزمان..، له مبرراته الكتابية في ذهنية راوٍ معاصر..، سوَّد الصفحات مستعرضاً مفاعيل الكولونيالية وهو يمخر عباب غزوين تعاقبا على "أرض المحروسة" كما يدعوها كراوٍ عليم في حكايته الاطارية.. الغزو العثماني وخطابه الاسلامي الظاهري والغزو الفرنسي وكلاهما ينهب ثروات وخيرات البلاد.
على لسان "ديبون" الصحافي الفرنسي الذي رافق الحملة الفرنسية على الجزائر عام 1830م، تبدأ الرواية بحدث مهم في العام 1833م.. إذ تحمل البواخر الفرنسية عظام الموتى من الجزائر لاستعمالها في تبييض السكر في المعامل الفرنسية.. يعود "ديبون" الى الجزائر لمعرفة الحقائق.. يلتقي صديقه القديم "ابن ميّار" الذي يناضل لاستعادة المساجد والزوايا وضيعته بعد أن صادرها الاستعمار الفرنسي وجعلها مخازن لأسلحته ومقرات
لجنوده..
ابن ميّار الميَّال الى العثمانيين ذلك أنهم لم ينتهكوا حرمة الأمكنة الدينية.. ابن ميار يحمل عرائض الشكوى الى الحكام المستعمرين والى الملك الفرنسي ولم تثمر عن شيء..، وأدت فيما بعد الى نفيه نحو اسطنبول من قبل "كافيار" الشخصية الرئيسة في الرواية، "فالديوان الاسبرطي" هي مذكرات "كافيار" ذلك الرجل المغرم بنابليون ويرى فيه المخلِّص والذي عمل كجاسوس في الجزائر دوّن المعلومات عن البشر والارض والشجر ليصبح فيما بعد حاكماً على الجزائر "العاصمة".. "ديبون" يمثل صوت التحرر والإنسانية بكل قيمها ومعاييرها العليا.. يرى أن "نابليون" ليس سوى مجنونٍ تجاوزته أحلامه وأدت
الى هلاكه..(الرواية).
كافيار المستعمر رمز القوة والسياسي الحاذق ورؤيته الكولونيالية في أن المال هو "الإله" وما على الرجل الاوربي "السوبر" المتفوق على بقية الأعراق من البشر سوى استثماره وتسخيره لخدمته.
قُسمت الرواية على خمسة أقسام توزعت بين كلِّ قسمٍ منها وفق مصفوفة سردية "ديبون، كافيار، ابن ميّار، حمة السلاّوي، دوجه).. خمس شخصيات تسرد يومياتها..، تارة على لسان السارد العليم وأخرى على لسان الشخصيات (السارد الضمني)، على ان تدخلات السارد العليم قد قيدت نمو الشخصيات في أكثر من موضع للرواية.. يوميات رتيبة ليس فيها من حبكات تغير مسار القص او على اقل تقدير تبعد القارئ عن الرتابة والملل واللاجدوى وهو يقرأ ما جادت به البوكر العربية.. أحداث بسيطة لاتبعث الحياة في روح الرواية ولا تنتج تخييلاتها الفاعلة في الوعي والمدركات..
الشخصيات العربية في الرواية مأزومة ومحبطة ويائسة على الدوام..، حتى شخصية السلاوي الرافض للاحتلالين ومن اسمه "حمة السلاوي" تظهر في الرواية كشخصية متهورة لاتعرف سبيلا للتعقل وتحقيق المصالح الشخصية او العامة.
وعوداً على بدء.. مانفع استدعاء الوثيقة التاريخية اذا لم يكن هناك انزياحات في المعاني وبناءات جديدة وأفق تجلٍّ يحمل مواضعات وبنيات فكرية معرفية مائزة، شرط الحفاظ على وثوقية ما جاء في المدونة التاريخية، بغية الارتقاء بالفن والجمال عبر صنعة الرواية التي باتت تطرح كمعادل موضوعي للتاريخ بعدِّها الفن الجمالي ذا الفضاء الشاسع في احتواء الأحداث والموضوعات والأفكار والمقصديات الأثيرة على صفحاتها.