ميادة سفر
حظيت «بيروت» العاصمة اللبنانيَّة، باهتمام بالغ بعد التدمير الذي حصل في مرفئها أو «البور» كما يقول أهلها بلهجتهم المحببة، فكان هاشتاغ «من قلبي سلام لبيروت» الأكثر حضوراً وانتشاراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن عديد المقالات والمنشورات التي تعبر عن مدى الحزن الذي ألم بكتابها، مع الكثير من مشاعر التعاطف للمصاب الذي لحق بالمدينة البحرية الجميلة.
لم تقتصر الحال على الأفراد ومشاعرهم، بل وأيضاً على المستوى الدولي عربياً وعالمياً، حين سارعت الدول إلى تقديم المساعدات المادية من طبية وغذائية وسواها للمدينة المنكوبة، وتبادل الاتصالات بين مسؤولي الدول تعبيراً عن الحزن والتعاطف والدعم، منذ الساعات الأولى للانفجار والدمار الكبير الذي خلّفه إن على المستوى البشري من أعداد الضحايا المتزايد، أو الاقتصادي والبنية التحتية.
ربما أمكننا أنْ نطلق على الحالة التي ظهرت بعيد انفجار مرفأ بيروت بعنوان وحيد ألا وهو الإنسانية، التي غابت مشاعرها في مرات كثيرة ولم تمارس بشكلها الصحيح بل كانت تتحيز إلى طرف دون آخر وفقاً لأجنداتها السياسية، لكنها هنا ظهرت واضحة جلية أقله بين الأفراد العاديين الذين لا مصلحة لهم مع طرف هنا أو هناك، غايتهم الوحيدة هي الإنسان، وحتى تلك الدول التي تقدم مساعداتها من دون هدف مستتر بل نابع من إنسانية تقدر لها، أما أولئك الذين سيحاولون استغلال الظروف وحاجة بلد ما للعون والدعم، فلا يفترقون عن الذئب الذي تستر بلباس الجدة ليأكل الحفيدة.
لو أبقينا على إنسانيتنا حاضرة في كل الأوقات لما كنا فجعنا بتدمير أوطاننا، وتشريد أهلنا وتجويعهم، كنا وفرنا أرواحاً وأموالاً تبني بدل أن تخرب.
لم يكن غريباً كل هذا الحب الذي عبرّ عنه العرب لبيروت في محنتها الأخيرة، أليست هي من احتضن من طردتهم بلدانهم، فيها نشر الكتّاب ما منعوا من نشره في أوطانهم، كانت المأوى والملاذ لكل من لا مكان له، في مقاهيها التقى كبار الكتاب والمثقفين والأدباء، اختلفوا واتفقوا وشاركوا في التظاهرات والثورات وعقدوا الندوات وألقوا القصائد بأصوات عالية لا يكممها رقيب ولا حسيب، في بيروت فردت الحرية جناحيها لتحمي الهاربين من قمع سلطاتهم، حين أعطتهم قلماً وورقاً ليقولوا ما يجيش في صدورهم من دون أنْ توظف من يقف فوق رؤوسهم، من دون أنْ تعطيهم قائمة بالخطوط الحمراء الممنوع المساس بها، وبعد كل هذا لا يستغربن أحد هذا الوجع لمصاب بيروت ولا حجم الحب الذي يكنُّ لها.
هامش: عن بيروت كتب فيليب مانسيل في كتابه «ثلاث مدن مشرقية» الصادر عن سلسلة عالم المعرفة يقول: «كانت بيروت جديرة بلقب باريس الشرق الأوسط، لأنها كانت مدينة المتع، وقبل ذلك بسبب هيمنتها الثقافية وكونها عاصمة الفكر والنشر والترفيه للعرب. وقد تعززت مكانتها، على نحو ما حدث مع باريس، بسبب القمع الذي كان سائداً في العواصم المجاورة».