د. حسين الهنداوي
الفيلسوف الاغريقي الشهير أرسطو طاليس (384 - 322 ق.م) كان طريفا أثناء إلقاء محاضراته في أكاديمته المشائية التي أنشأها في أثينا وأمضى فيها سنواته الأخيرة، إذ كان يسحر تلاميذه بمعلومات اضافية غير ذات صلة مباشرة بموضوعه، ولكنها شيقة للغاية، محافظا في الوقت نفسه على عمق معرفي وفلسفي متميز ومبتكر وواسع للغاية في دروسه الفلسفية.
تلك الطريقة الجذابة، التي نجد أصداءً منها لدى الفيلسوف الالماني هيغل في دروسه البرلينية ولدى المفكر العراقي مدني صالح في محاضراته البغدادية أيام دراستنا على يديه، جعلت البعض يطلق على أرسطو لقب "المعلم الأول" مجازا لمعارفه المتنوعة والغنية مقارنة بنظرائه من الأساتذة فيما ذهب البعض الآخر الى حد عدّه، من دون تمحيص غالباً، مؤسس علوم النفس والمنطق والسياسة والخطابة وحتى الفيزياء والأحياء وغيرها دفعة واحدة.
الطريف أيضا، أن بعض المعاصرين الأسخياء من الكتاب وجد في هذا الفيلسوف القديم جدا، مفكراً حديثًا وتقدميًا.. غافلا عن انصرام أكثر من 2250 سنة على وفاته وتعاقب عدد مهم من الثقافات والدول على عصره ودولته وان القديم لا يرجع جديدا مهما كان الحال، ومستنتجا أيضا أن أرسطو لم يكن مجرد فيلسوف كتب عن الحياة السياسية والفكرية التي عاصرها وعن الدستور البسيط الخاص ببلاد الاغريق القديمة تلك، بل عدّوه مفكرا عظيم التقدم على زمانه الى حد أن أحدهم رأى فيه "اشتراكيًا ديموقراطيًا" قبل ولادة هذا المذهب الايديولوجي الاقتصادي بزمن شاسع، بل توهمه مؤسساً ملهمًا للتقدميين والديموقراطيين المعاصرين بزعم أنه وضع المساواة والعدالة الاجتماعية في قلب الكفاح السياسي.
هذا المجد الإشكالي البرّاق لم يصمد أمام اختبار الزمن دائماً. فأرسطو، كما كشفت كتاباته نفسها، لم يدعُ فقط الى إعلاء العدالة والمساواة والتعايش السلمي والى الاعتراف بأن الحياة الفاضلة هي الغاية الأسمى للمجتمع والتأكيد على أن الهدف من علم السياسة ينبغي أن يكون خير الإنسان كما كتب في كتابه «الأخلاق النيقوماخية»، إنما كان ايضا المفكر الذي شرعن العبودية ودافع عنها معارضا مبدأ المساواة بين البشر فضلا عن رفضه الحاد
لمبدأ مساواة المرأة بالرجل.
لقد كان بلا ريب ابن عصره وثقافته المحدودة الأفق في مجالات كثيرة. ومن هنا مصدر مغالطات وتناقضات مجانية في المواقف المنسوبة الى المعلم الأول تنمُّ عن افتقار فاضح لأي محتوى فلسفي مهما كان ضئيلا فضلا عن انتقائية اعتباطية وتورم قومي أحيانا كقوله في كتابه «السياسة» مثلا، إن البرابرة – ويقصد غير اليونانيين- بطبيعتهم أكثر من الاغريق قبولا للعبودية، والآسيويون أكثر من الاوربيين. لأنهم يحتملون السلطة الاستبدادية دونما احتجاج. وهي مغالطة جلبت الكوارث على شعوب لا تحصى وشرقية في الغالب عندما التقطتها الامبراطوريات الاستعمارية الاوروبية وانطلقت لتنشر عليهم بالحديد والنار حضارتها.
بيد أن أرسطو اهتز قبل أيام في عقر داره عندما طرحت أستاذة الفلسفة بجامعة شيكاغو أغنيس كالارد سؤالها الرهيب: هل ينبغي الشطب على أرسطو بسبب أفكاره العنصرية؟، وذلك في مقال نشرته لها صحيفة نيويورك تايمز الاميركية وأثار جدلاً لم يخمد الى الآن، ما دفع عددا من أساتذة الفلسفة والمريدين الى الرد عليها وحتى التصدي المنهجي لها كما فعل أستاذ الفلسفة الصيني بريان نوردن الذي نشر مقالا بعنوان "من يشطب على أرسطو؟، او الذعر الوهمي من الثوابت". دافع فيه عن ما اسماه الفكر النير لدى أرسطو. بيد أن الاستفهام الجوهري الذي نفضت أغنيس كالارد الغبار أقوى من أن يُطفئ أصداءه السكوت عنه. فقد لاحظت الأستاذة الاميركية أن رجعية أرسطو لا تتوقف عند هذا الحد بل تذهب بعيدا بقوله إن النساء غير قادرات على اتخاذ قرارات سليمة او بحرمانه للعمال اليدويين من حقوق الأحرار، برغم أنهم ليسوا عبيدًا ولا نساء، كالحصول على الجنسية أو التعليم في مدينته. بالطبع ليس أرسطو وحيدًا في إطلاق تعليقات عنصرية. فعمانوئيل كانت وديفيد هيوم ولايبنتز وفيتغنشتاين أطلقوا هم أيضا مواقف عدت عنصرية صريحة او ضد المرأة ومع ذلك تم تجاهلها او تجنب آثارتها والتركيز بالمقابل على الأفكار الرائدة التي قدموها على أساس أن مساهماتهم الفلسفية الأساسية لا يهزّ جلالها بعض زلات لسان لديهم طائشة.
المعضلة مع التمييز العنصري لدى "المعلم الأول" تختلف تماما. فهو من جهة يعدّ كالأب المؤسس لهذه الفكرة البائسة في غياب اثر أسبق عليه حتى الآن، وهو من جهة أخرى يبدو بمثابة معقلنها الفلسفي الأعمق والأدهى ولا يشفع له بعدئذ تأكيده الرائد أن العقل هو معيار إنسانية الإنسان وأن الفضيلة هي المضمون الأخلاقي الأساسي الدال على ذلك. فهذه الأفكار العبقرية تغدو محض هراء عندما يقصي أرسطو النساء والعبيد وحتى العمال اليدويين من حق المطالبة بالاحترام أو الاعتراف، على قدم المساواة بسواهم من البشر، بالقدرة على نيل الفضيلة لمجرد أنهم ببساطة لا يمتلكونها. والحال أن هذا الاقصاء يكفي بذاته لاتهام أرسطو بالعنصرية بالقدر الذي يبدو فيه مؤسسا ومدافعا عن مفهوم "فلسفي" ليس هجينا وحسب بل وفي تضاد مع جوهر الكرامة الإنسانية التي تؤسس مفهومنا الحديث عن حقوق البشر.