شكّل ظهور الولايات المتحدة قوة مؤثرة في المحيط الدولي في إثر اختفاء القوى الدولية والاقليمية وحتى المحلية الكفيلة بسد الفراغ السياسي والتاريخي الذي أعقب انسحابات بريطانيا وفرنسا من العالم لا سيما من آسيا وأفريقيا بعد الحرب العالمية الثانية وبسبب هذا الفراغ ومتلازمة الصراع الناتجة
عنه شكلت الجغرافيا الافرو – آسيوية الجغرافيا المتوترة دائما في النصف الثاني من القرن العشرين، ومنذ تلك اللحظة شكلت تلك المساحة التي تغطي ما يقرب من ثلثي العالم جغرافيا الصراعات السياسية والعسكرية لتلحق بها أخيرا القارة الأميركية الجنوبية لينتشر التوتر في كل أرجاء العالم ويعيش هذا العالم أزماته التي كادت أن تكون مستديمة وقارة في أجزاء عدة منه.
وهو ما كان يسمح للولايات المتحدة أن تستثمر ذلك التوتر وتسهم الى حدٍ كبيرٍ في إدامة أزمات العالم من أجل فرض سياساتها ومصالحها العليا في السياقات الدولية السياسية والاقتصادية، وهو ما كان يدعو الكثير من المجموعات والاتجاهات المناقضة والمعارضة للسياسات الأميركية الى اتهامها بافتعال الأزمات الاقليمية والدولية كأبرز ستراتيجياتها في السياسات الخارجية
والعلاقات الدولية.
وقد سعت هذه المجموعات والاتجاهات السياسية التي تسيدت المشهد السياسي في الجغرافيا الأفرو-آسيوية الى تأكيد مبادئ الاستقلال السياسي والاقتصادي، وكان الغالب على تلك الاتجاهات هي المبادئ اليسارية والقومية – الاشتراكية، لكنها كانت فرصة لتعزيز الصراع التقليدي والتاريخي بين الشرق والغرب والذي استثمرته أخيرا حركات وأحزاب الاسلام السياسي في توجيه وإدارة الخلاف مع الغرب الرأسمالي الذي استقطبت الولايات المتحدة تمثيله والتعبير عن رؤيته السياسية والثقافية كأحد أبرز ملامح ملء الفراغ الذي تسبب عن تخلي دول أوروبا عن مساراتها وأدوارها التاريخية بعد الحرب
العالمية الثانية.
وكانت السمة البارزة في المواجهة مع الولايات المتحدة ومخلفات الاستعمار الأوروبي القديم هو التضامن الافرو-آسيوي الذي كان يشكل غطاءً آمنا ومشجعا بالنسبة للجغرافيا الافرو–آسيوية المتوترة بين تهديدات الرأسمالية الأميركية والأزمات الداخلية، وقد شكل التحاق الأميركية الجنوبية عبر أنظمتها اليسارية والمناضلة بالرؤى والمواقف السياسية في آسيا وأفريقيا دفعا وزخما جديدا لما أطلق عليه لاحقا مجموعة أو منظومة دول العالم الثالث التي أضافت نوعا من الاستقرار السياسي والتكاتف الاجتماعي – الثقافي بين شعوب هذه الدول. وقد شهدت شعوب ودول هذا العالم الثالث أو عالم الدول
التي خرجت عن حقب وأنظمة الاستعمار وحازت استقلالها السياسي تطورا سياسيا واقتصاديا وتطورا ثقافيا – معرفيا مهما كان بإمكانه إنتاج عالم ثالث حقيقي وإنتاج شعوب تتصف بالثورية والتفاؤلية بالتغيير نحو قيم العدالة الاجتماعية، وقد أسست تلك الايديولوجيا الثقافية أنظمة سياسية بدأت تبحث أو تطبق سياسات
تنموية اقتصادية وثقافية لكنه
عجزت عن تنمية رؤيتها السياسية تجاه مسائل حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية والتعدددية السياسية والثقافية، وهو ما شكل أزمتها البنيوية التي ظلت تنخر بمقومات وجودها الايديولوجي ونظامها السياسي وهو ما جعلها دائما ومن جديد على أعتاب حالة من التوتر السياسي والاجتماعي
الداخلي.
مما حدا بهذه الدول الى الاعتماد على تحالفات دولية في تأمين غطائها الأمني والسياسي الداخلي، وهو ما أدى الى تحجيم أو تقليل الدور السياسي المناط بمجموعة دول عدم الانحياز التي تكونت من دول آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، فلم يكن هناك تفعيل حقيقي في سياسات عدم الانحياز التي أعلنت شعارها وأهدافها في مؤتمر باندونغ في العام 1955 م وعرفت بـ «مبادئ باندونغ العشرة»
لا سيما البند السادس الذي ينص على « -عدم استخدام أحلاف الدفاع الجماعية لتحقيق مصالح خاصة لأيّ من الدول الكبرى»، لكن سياسات ومصالح الكثير من أنظمة دول عدم الانحياز كانت تلتقي ومصالح إحدى الدول الكبرى مما يؤدي بها الى اللحاق بسياسات إحدى
الدول الكبرى.
وقد أسهم غياب نظام التوازن الدولي بين القوتين العظميين في اختفاء حركة عدم الانحياز وكل المنظمات الأفرو–آسيوية، ما أدى الى انبثاق الفوضى في هذه الجغرافيا المتوترة منذ بداية ظهورها وتكونها في القرن العشرين، وهو ما تسبب في اسقاط أنظمة ودول فيها، وفي مناخات ومواقع هذه الجغرافيا المتوترة واستحقاقاتها نشأ أو حدث ما عرف بالربيع العربي الذي لم يكن يُعبر عن ثورة بالمعنى الدقيق الذي تشف عنه كلمة الثورة في المصطلحات والمفاهيم السياسية المعاصرة، لا سيما في أدبيات حركات التحرر الوطني بقدر تعبيره عن التوتر السياسي والاجتماعي الذي كان يستبيح هذه الجغرافيا السياسية الناشئة بعد الحرب العالمية الثانية، ولأن هذه الجغرافيا العربية تعيش
التوتر في تاريخها فضلا عن حاضرها فقد فتح هذا التوتر السياسي والأمني الباب واسعا أمام الخريف العربي خريف الروح المأزومة في إثر انتكاسة الهزيمة وخريف الفكر الذي فقد كل تفاؤلية حداثية وبشائر بناء الدولة الحديثة، فهو الفكر الذي غاب عن الحاضر
وفقد المستقبل لصالح الماضي وجفت عروق الربيع فيه عن العطاء فلم يقدم إلّا الفوضى وغياب الأمل وضياع الدولة وانشطار الشعوب العربية وفق مقاسات الفكر الخرافي – الطائفي، مما أدى الى استبدال الجغرافيا المتوترة على صعيد الدول وأنظمتها في المنطقة بجغرافيا أشد توترا وأخطر نتاجا وهي الجغرافيا الطائفية التي عبرت عنها مصطلحات الهلال وما شاكلها، وأنتجت تشظي الذات العربية أخيرا على مستوى الشعوب.