رزاق عداي
لا انتداب للَبنان، ولا استعمار قديماً، فالتاريخ لا يكرر نفسه، واذا كررها فستكون مهزلة، ربما هي مقولة قديمة لـ (كارل ماركس) المولع بالتاريخ.
أما ما راج بشكل واسع عبر وسائل الاعلام، وانتشر بكثافة من على مساحات ومنصات عريضة للتواصل الاجتماعي، عن تسلم الرئيس الفرنسي وثيقة تواقيع لآلاف من اللبنانيين يبدون رغبتهم فيها للعودة بالبلاد الى الانتداب الفرنسي، فهذه الحركة او الفاعلية المجتزأة وغير المتوقعة من لدن هؤلاء الموقعين على الوثيقة، التي حصلت خلال زيارة الرئيس ماكرون، التي استغرقت عدة ساعات فقط، على اثر الانفجار الكبير الذي تعرض له مرفأ بيروت مؤخرا، لم تكن هذه الحركة سوى فورة عاطفية غاضبة، او رد فعل نفسي طارئ ازاء صدمة التفجير المهول، فحسب، او هو معادل لامتعاض عارم، واستياء مجتمعي عظيم، من جراء مسلسل طويل لمعاناة وأزمات مستمرة ومتوالية عاشها الشعب اللبناني طيلة عقود زمنية طويلة، أنتجها أداء حكومي متردٍّ، فجاء الانفجار في مرفأ بيروت الأخير كتداعٍ نوعي وهائل، ليفجّر النفوس بما اختزنت، فعبرت عن نزوعها للخلاص، حتى وان كان برغبة ارتدادية باتجاه معاكس للتاريخ بالعودة الى
الانتداب القديم!،
أما بخصوص زيارة الرئيس الفرنسي للبنان، فهي، كما قال في مؤتمره الذي عقده قبل مغادرته، ان ليس لأحد أن يغير النظام السياسي لدولة لبنان، او ان يتدخل في الشأن الداخلي لها، إنما حضر لمناسبة الحدث الجلل «لتقديم المساعدة بشتى أنواعها، ولمواساة الشعب اللبناني، وتقديم النصح السياسي بالممكن، مقترحا تغيير العقد الاجتماعي - السياسي لدولة لبنان فقط»، فلبنان يتلقى رعاية فرنسية منذ أكثر من قرن من الزمان، ابان الانتداب الفرنسي له، وكانت بعض الطوائف اللبنانية والعائلات والشخصيات تحظى بعلاقات عميقة وتاريخية، واستمر الاهتمام الفرنسي بلبنان، حتى بعد الاستقلال، وتشكيل الدولة اللبنانية الحديثة، فالرعاية له تتفوق على ما يناظرها لدول شرق أوسطية أخرى، أما قصة
الانتداب، فهي كما هو معروف آليّة سيطرة دولة على أخرى، وهي صيغة هيمنة انتهى مسوغها تأريخيا، إذ شاعت في المرحلة الكولنيالية (الاستعمارية)، كعقد استعماري، يبرم ما بين الدول المستعمرَة (بفتح الراء) والمستعمرِة (بكسر الراء) بوثائق معاهدات او اتفاقيات بين الطرفين، كما حصل في العراق مطلع القرن العشرين من انتداب بريطاني له.
فظاهرة الانتداب او الحقبة الاستعمارية بزغت كمرحلة حتمتها وفرضتها معطيات تاريخية - تطورية في العلاقات الدولية، أي ما يُسمى بالتشكل الدولتي الجديد الذي أفرزه النظام الدولي الجديد وفقا للمعاهدات المنعقدة بين مجموعة من دول أوروبا البارزة في نهاية القرن الثامن عشر، وجاءت متزامنة مع التنامي الكبير للنظام الرأسمالي الصناعي، والتوسع والتراكم السلعي في الانتاج، والذي ولد بدوره أزمات متعاقبة، مما شكلت حافزا كبيرا للاستعمار ولاحقا الانتداب، فكانت الحرب العالمية الأولى هي التجسيد العملي لظاهرة الاستعمار في شكل العلاقات الدولية بعد اقتسام غنائم الحرب على شكل دول
مستعمرة، اليوم، ما عاد الانتداب يصلح كآلية لحكم الدول، فالدول الكبيرة المستعمرة باتت لا تقبل به، فهو غير نافع ولا رشيد، إذ بموجبه تتحمل هذه الأخيرة التزامات سياسية واقتصادية طائلة، والمثال القريب والحاضر في
الاذهان، وفي الذاكرة العراقية حصرا، هو حجة اميركا في ادعائها تحرير العراق لما اجتاحته سنة 2003 الذي أوقعها لاحقا في إحراج كبير في دائرة النقاش في الأمم المتحدة، ما أجبرها للاعتراف بالاحتلال مقرونا بقرار دولي صدر عن الأمم المتحدة، وتحملت مسؤوليتها عن الواقعة بوصفها دولة محتلة، ولاحظنا بعد ذلك كيف أن
(اوباما) هو الذي أسرع لسحب جيشه من العراق في سنة 2011 ليخلص من أعباء الاحتلال، كما أننا يمكن أن نتذكر تجارب أخرى مماثلة الى حد ما، فالسرعة العجيبة لتفكك الاتحاد السوفيتي كانت تثير التعجب واولى مخرجاتها أن (غورباتشوف) هو الذي اوعز الى دول البلقان (ليتوانيا، واستونيا، ولاتيفيا) للانفصال، بعدما أدرك تماما ألا جدوى من ارتباطها فهي متطفلة على اقتصاد الاتحاد السوفيتي، أكثر من كونها داعمة للناتج القومي للبلاد.
العالم العولمي الذي يميز العلاقات بين الدول ويحكمها، لا مكان فيه للانتداب القديم، وفرنسا هي أول العارفين بهذه الخاصية، الخالية من الالتزامات، وغير المكلفة، فلكي تكون بلادك منخرطة في فوائد العولمة، فما عليك إلا أن تنهج الأسلوب الذي اتبعه الرئيس الفرنسي (ماكرون)، فكان أول رؤساء العالم الذي زار لبنان، بل وسبق ساسة لبنان أنفسهم في الوصول الى موقع المرفأ الذي ظل دخانه ينبعث حتى بعد حين، تجول الرئيس الفرنسي في المكان المحترق، واحتضن الكثير من اللبنانيين بالحرارة الفرنسية المعهودة، وخاطبهم أن فرنسا لا تريد الانتداب إنما حضرت للمواساة والمساعدة
فقط.