عاشوراء.. بين الولاء والوباء

آراء 2020/08/12
...

* مصطفى الصائغ
لم يغب عن ذهن المسلمين أهمية إحياء مراسيم عاشوراء، لا سيما الطقوس التي اعتاد عليها المؤمنون منذ أمد بعيد، بين إقامة مجالس الوعظ والإرشاد وقراءة المقاتل والوقوف على تلك المواقف الخالدة في مدرسة كربلاء وثورة الإمام الحسين (ع) ومجالس التعزية من خلال إلقاء القصائد التي تبث روح الولاء والانتماء والحماسة والحزن في النفوس باسم شهداء الطف، فضلا عن إقامة بعض المراسيم ونصب السرادقات في الشوارع ورفع اللافتات التي تحمل مقتطفات من خطب الإمام الحسين (ع) في كربلاء وبعض أبيات الرثاء، وكذلك تقديم العروض المسرحية في المسرح المتنقل (التشابيه كما يطلق عليها) والذي يقوم على نقل صورة تقريبية للمجتمع عن مدى شجاعة وصبر الإمام الحسين (ع) والثلة التي كانت معه في سبيل الله وإحقاق الحق وطلب الإصلاح وبشاعة ظالميه، وما إلى ذلك من الطقوس التي منها إقامة مآدب الطعام الكبيرة في الشوارع وعزاء ضرب السلاسل وغيرها من الطقوس الشعبية.
هذه الصور العاشورائية التي تتجسد كل عام في مناطق شتى من بلاد المسلمين عرفانا بالثورة الحسينية تؤكد أهمية ما خلصت إليه تلك الثورة من نتائج في ترسيخ مبادئ الحرية ومناهج الكفاح والصمود من أجل إعلاء كلمة الحق. 
هذا الموسم العزائي كما يطلق عليه، والذي يمتد من غرة شهر محرم وحتى العاشر منه ليستأنف في عشرات أُخر وصولاً إلى العشرين من صفر حيث زيارة الأربعين، نرى جمهوره اليوم ومعتاديه في قلق واضطراب ينتهي الى تحدٍ في ظل الازمة التي ألمّت بالعالم أجمع (جائحة كورونا) وتأثيرها في تحجيم ممارسة النشاط البشري على الصُّعد كافة لاسيما الممارسات العبادية والطقوس الدينية، فلم يشهد التاريخ الحديث منع صلوات الجماعة والجمعة في المساجد والمراقد، ومنع صلوات وطقوس الاعياد في الكنائس مثل ماحدث في هذا العام، كما احتد الأمر حتى انتهى الى اقتصار أداء الممارسة العبادية الأشهر والأهم لدى المسلمين -مناسك الحج- لهذا العام وفق إجراءات وقائية مشددة على أقل عدد سمحت به الجهات الطبية والصحية العالمية والمحلية. وهنا كان جديرا بالمرجعية الدينية العليا في العراق المتمثلة بسماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني - دام ظله- أن تجيب على الاستفتاء الذي تقدمت به مجموعة من المؤمنين بخصوص قرب أيام محرم الحرام الذي تداولته أغلب وسائل التواصل الاجتماعي والمؤسسات الاعلامية والذي ينص في نقطته الأولى على: 
((الاكثار من بثّ المجالس الحسينية النافعة على الهواء مباشرة عبر المحطات التلفزيونية وتطبيقات الانترنت، وينبغي للمراكز والمؤسسات الدينية والثقافية أن تنسق مع الخطباء الجيدين والرواديد المُجيدين بهذا الصدد وأن تحشد وتحثّ المؤمنين على الاستماع اليهم والتفاعل معهم وهم في أماكن سكنهم أو ما بحكمها))
هذه النقطة قوبلت بسوء فهم واعتراض من عدد من الناس حتى أدركت قلوب المقلدين للمرجعية لما للشعائر من أهمية قصوى وتأثير كبير في نفوسهم، إذ شعر البعض منهم بأنها ستؤثر على ممارساتهم العبادية وطقوسهم الدينية تحت ذريعة الوباء، وتناسى الذي استقرأ النص بهذه الصورة النصف الثاني من النقطة الثانية ((وأما المجالس العامة فلا بد من أن يلتزم فيها بالضوابط الصحية التزاماً صارماً، بأن يراعى فيها التباعد الاجتماعي بين الحاضرين واستخدام الكمامات الطبية وسائر وسائل الوقاية من انتشار وباء كورونا)) أي لم يكن القصد في النقطة الاولى منع إقامة المجالس أو حرمتها بينما كان تقديمها من باب الأولى تزامنا مع تفشي جائحة كورونا في المجتمع، او باللجوء إلى الخيار الذي طرحته المرجعية في نقطتها الثانية التي ورد ذكرها في أعلاه والتي تراها تؤكد الالتزام من خلال عبارة (التزاما صارما).
غير أن تأكيد نشر المظاهر العاشورائية على نطاق واسع من خلال رفع الأعلام واللافتات السوداء في الساحات والشوارع والأزقة ونحوها من الأماكن العامة مع مراعاة عدم التجاوز على حرمة الأملاك الخاصة الذي ورد في النقطة الثالثة دليلٌ اخر على أهمية التمسك بإحياء مراسيم عاشوراء وضرورة إحيائها في العقيدة الاسلامية الشيعية التي من جهة أخرى تعد حقا كفله الدستور العراقي 2005 بموجب المادة (43) / أولاً / الفقرة أ- والتي تنص على ((ممارسة الشعائر الدينية، بما فيها الشعائر الحسينية)) فليس هناك من يستطيع أن يمنعها أو يحرمها، إلا أن الأزمة الحالية - التي وصلت الى نهايتها كما يشير المختصون - هي التي حالت دون إقامتها بالنطاق المتعارف عليه وأدت الى تقنين وتحجيم هذه الممارسات والطقوس شأنها شأن الممارسات البشرية الأعم، فإن الصرخة التي صدرت عام 61 هجـ من تلك الصحراء على لسان سبط رسول الله (ص) (ما خرجت أشرا ولا بطرا ولا ظالما ولا مفسدا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) مازالت وستبقى ما بقي الليل والنهار لتبعث في النفوس حالة رفض الظلم وطلب الإصلاح 
في الناس.
وكي لا تكون الشعائر وإحياؤها مثارا للجدل والاختلاف، كان لزاما على كل محب ومتمسك بمنهج الإمام الحسين أن يلتزم بالإجراءات الوقائية والتباعد الاجتماعي وتقنينها في الوقت الحاضر، ضمانا لتحقيق أحد أهم أهداف الثورة الحسينية العظيمة وهو حفظ الأرواح وحمايتها وحماية حرياتها.