قيامة لبنان

آراء 2020/08/13
...

أمين قمورية

أبى لبنان إلا أن يودع مئوية ولادته في أيلول المقبل، برائحة النهايات بعدما طاف مرفأ العاصمة بالدم والشهادة والجروح والكارثة الهائلة التي جمعت الركام فوق الركام والأشلاء فوق الأشلاء. في آخر أيام السنوات المئة من عمر لبنان، ورث أبناء هذا البلد الصغير تابوتا بحجم كيان، يحمل الى مثوانا الاخير الاحلام الخائبة والامال المستحيلة لشبابنا وبناتنا بغد افضل في وطن يليق بالعصر الحديث.
وجاءت وجبة الموت المرعبة في أحلك الاوقات، في وقت حوصر اللبنانيون بالذل والقهر ولقمة العيش، وببطالة قياسية، وغلاء استثنائي، وانقطاع الماء والكهرباء، وبعدما أطبق على جنى العمر في مصارف كانت تتغنى كذبا أنها سر رخاء البلد وازدهاره قبل أن يتبين أنها شريكة كاملة الأوصاف للطبقة الحاكمة ربيبة الحرب وأوساخها. وكانت الوجبة كفيلة بايصال غضب اللبنانيين وحزنهم ويأسهم الى الذروة. 
حلت الكارثة، وطحنت معها آخر الآمال والاحلام. لكن أبالسة السياسة الذين تناوبوا على التحكم بالبلد واستباحته، يرفضون أن تهتز كراسيهم رغم العصف النووي للانفجار. يحاولون ابقاء حلقة النظام الطائفي عصية على الكسر رغم ما صنعت أيديهم من ارتكابات. الحكم في لبنان ليس للحكومة، الحكومة أداة للحكام الفعليين دهاقنة النظام الذين يبحثون عن كبش فداء يلبسونه الجريمة التي صنعتها أيديهم طوال 40 سنة. 
ولأن الحدث مفجع لا بدّ من كبش مدهن وسمين، ولم يجد هؤلاء سوى حكومة حسان دياب لتقديمها على هذا المذبح. هي حكومة المستشارين واللا قرار والمحملة بكل أثقال الدنيا. إلّا انها ليست الجاني. الجاني الحقيقي هو هذا النظام بكل وجوهه وأسمائه وشخوصه، هو اخبطوط الفساد الذي وجد في حكمهم وتسلطهم مرتعا وغذاء له. الجاني الحقيقي هم حماة صيغة التحاصص الطائفي التي ابتلعت موارد البلد وخيراته وجعلته بازارا في سوق النخاسة العقارية. 
حكومة دياب غرقت سفينتها بسرعة فائقة في البحر قبالة مرفأ بيروت بعدما تفجرت فيها كل قنابل النظام الموقوتة منذ أربعين عاما. فماذا يُخبئ لنا الغد بعد الانفجار؟ 
لبنان بعد 4 آب، يوم الانفجار، ليس كما لبنان من بعده، وما كان يجوز في السابق لم يعد مسموحا به مستقبلا، لا بد من تغيير القواعد والاولويات والحسابات، وهذا ما ينطبق على كل القوى السياسية اللبنانية بما فيها تلك التي ترفع شعار التغيير. 
بعد انتفاضة 17 تشرين، آمنا بأن بارقة الأمل صارت على الابواب، قلنا إن لبنان سيقوم من تحت الردم وان التغيير آت لامحال، وان قيام الدولة المدنية بات مسألة وقت ليس إلا. لكن سرعان ما ظهر ان الطريق طويل وصعب وشاق، صحيح أن بنية البلد صارت خرقة مهلهلة اخلاقياً وسياسياً وانسانياً واقتصادياً. ولكن هذه الخرقة محروسة بقوى استقوت بجماهيرها المدمنة على أفيون التعصب المذهبي. وفي المقابل دعاة التغيير كثرة مشتتة. لم تتفق بعد على برنامج موحد ولا على اطار تنسيقي موحد. البديل المفترض لم يجد بعد طريقه إلى قلب الاوضاع، ولا حتى الى التحول للاعب يحسب له حساب في التوازنات السياسية الداخلية. 
قلب الميزان الداخلي صعب في ظل التعقيد والخيط الرفيع بين النضال السلمي من أجله والسقوط في فخ الحرب الاهلية التي لايزال طعمها البشع تحت أضراس اللبنانيين. هل تترك الساحة للقديم الذي اوصل البلاد والعباد الى الفاجعة؟ 
هذا مايأمل به أمراء الطوائف والمتفجرات، فهؤلاء الذين أتوا من الكوارث وعليها يقتاتون، يأملون بان تكون كارثة المرفأ فرصة لالتقاط الانفاس، بعدما حقق ما اعتبروه فرصة لاختراق الحصار الدولي على لبنان، آملين بأن تكون هبة المساعدات التي انهالت على بلدهم بعد الكارثة وسيلة لاسترزاق جديد ومادة لاعادة شراء الذمم. لكن ليس هذا مايراه الغرب والمانحون والمتطوعون لتقديم مساعدات.
 وهذه الطبقة أعياها الوهن واصابها التشرذم ولم تعد محل ثقة من اختارها وجدد لها مرارا وتكرارا في صناديق اقتراع مفصلة على القياس. ولم تعد محل ثقة الخارج الذي دعمها وغض الطرف عن ارتكاباتها. وبات لزاما عليها أن تدرك أن الشارع في لبنان يفرز وقائع جديدة، وأن غضب الناس سيستدرجها إلى أعمال عنفية وربما إلى عنف مسلح. عليها أن تعلم أن متطلبات الشباب عالية جداً ولا بد من فتح مسارب في الجدران المغلقة للنظام السياسي.. وإلا فإن الوضع سيتجه نحو الفوضى وربما أكثر من ذلك. فهل تفعل؟ وهل تنجو من الحصار؟
صحيح أن قلب العالم انفطر على بيروت، وان الطيبين من بغداد الى الرباط مرورا بأصقاع الدنيا تحركوا لنصرة شعب لم يترك ساسته موبقة أو مصيبة إلا وارتكبوها بحقه. لكن السياسة لا تحركها لا العواطف ولا القلوب. حسابات المصالح تطغى على حسابات العواطف. فكيف بالأحرى في بلد يقع على خط النار، اسرائيل (بما تعني للغرب) على حدوده الجنوبية وسوريا (بما صارت عليه من ملعب للقوى الكبرى) على حدوده الشرقية والشمالية، ووجهه الأخير قبالة البحر الذي تفيد التقارير أن فيه مخزونا للغاز عين الجميع عليه. 
حصار الغرب والعرب للبنان جعله ساحة متروكة لخصومهم. ايران تلعب في ساحة من ساحاته وتركيا تتحرك لملء ساحة أخرى تخلى عنها السعودي خصوصا والعربي عموما، وروسيا الموجودة في الجوار السوري قد تبحث عن حماية لجنودها ونفوذها في لبنان، والصين السائرة على طريق الحرير تبحث عن ميناء للتصدير على شرق المتوسط بعدما أغلقت أمامها المرافئ الأخرى في الاقليم عينه. من هنا فإن الاهتمام الفرنسي المفاجئ بلبنان لايخرج عن هذه المعطيات الجديدة، وهذا التحرك ليس بمنأى عن واشنطن التي شارك رئيسها دونالد ترامب في مؤتمر باريس لدعم لبنان، وهكذا لن يكون مفاجئاً أن يعدل السعوديون والخليجيون مسارات تعاملهم مع الوضع اللبناني.
بالمختصر، لبنان خرج من تجاذب قادته الصغار ودخل مجددا في بازار الكبار والتجاذبات الدولية والإقليمية وأصبح في قوس 
الأزمات. 
لكن هذه المظلة الدولية الجديدة فوق لبنان، لا تأخذ بالضرورة منحى صِدامياً، كما كان الحال في محطات سابقة ابرزها حرب تموز 2006. ثمة واقعية فرنسية مستجدة عبرت عنها لفتة ماكرون تجاه حزب الله، عشية زيارته لبيروت وخلالها. ومثلها واقعية ايرانية واميركية لافتتان، فهل يكون ذلك تمهيدا لتسوية جديدة في لبنان تترجم حكومة وحدة وطنية بعد اجراء اصلاحات شاملة، وارساء عقد جديد بين اللبنانيين، بحسب ما طالب ماكرون الساسة اللبنانيين الذين جمعهم معا في دارة سفارة بلاده في بيروت، ام ان ذلك سيؤجج التوتر والتجاذب بين الكبار على الساحة اللبنانية ويترك البلاد فريسة للغربان الى غير رجعة؟ معرفة الجواب عن هذا السؤال لن يتأخر كثيرا. 
صحيح أنَّ قلب العالم انفطر على بيروت، وأن الطيبين من بغداد الى الرباط مروراً بأصقاع الدنيا تحركوا لنصرة شعب لم يترك ساسته موبقة أو مصيبة إلا وارتكبوها بحقه. لكن السياسة لا تحركها لا العواطف ولا القلوب. حسابات المصالح تطغى على حسابات العواطف. 
فكيف بالأحرى في بلد يقع على خط النار، اسرائيل (بما تعني للغرب) على حدوده الجنوبية وسوريا (بما صارت عليه من ملعب للقوى الكبرى)