شعريَّة الوصف في {المُسَدَّس أوَّل القتلى}

ثقافة 2020/08/15
...

زهير الجبوري 
 
قد تبدو انتباهتي لتجربة الشاعر علي فرحان متأخرة وهو يصدر آخر مجموعة شعرية بعنوان (المسدس أوُّل القتلى /2019)، ومن خلال تواصله وحضوره المستمر في الساحة الشعرية، فقد اتضحت تجربته وبانت خطواته، وحتى نمسك بتجربته الأخيرة هذه، فهو شاعر لا يأخذ القصيدة كمشروع تنميقي يلامس خيوط اللغة الشعرية ويعمل على مجازاتها وفنونها البلاغية فحسب، إنما تطرح قصيدته مشهديات لقضايا وجودية.
وهنا يكمن السؤال الشعري بوصفه سؤالاً مواجها للواقع وكاشفاً  لمحنته، الى أي مدى تبقى المؤثرات الماحولية جزءا من تقانات الشاعر..؟ .. ربما هو السرّ الذي جعل كل شاعر يمارس إقحامه في التجديد او التجريب او المغامرة، ولعل التجارب العراقية عبر عقود طرحت 
ذلك.
(المسدس اُوُّل القتلى)، مجموعة تستعيد طريقة التلقي من خلال التفكير بالمعنى، والانتباهة الى وجود مضمون كتب بقصدية، ولعل (علي فرحان) أثبت من خلال ذلك أن قضية الشعر الآن تحاكي الحاضر كوثيقة مدونة، ربما ستكون لاحقاً ـ أي الأحداث ـ  
مدونات تاريخية، فثمّة دراما غير معلنة، او حبكة صاغتها لعبة الوصف، فهو يتعامل مع النصوص بوصفها جملاً مسرودة، وهنا تتضح طريقة ما كتب من قصائد، فهل هي (شعرية الكتابة) أم (الشعرية المنثورة)..؟ 
فالأولى تدخل ضمن سياق الكتابة النصية (الاجناسية) المعاصرة والشاملة، فيما تتناول الثانية سمات القصيدة النثرية المعهودة، ورغم انسراح المعنى ووضوح دلالته في كل قصيدة، إلاّ أن ذلك لا يمنع لعبة المجاز والمفارقة أن تكون حاضرة، ولكنها غير مهيمنة، ابتداءً بالعنوان (بوصفه العتبة الأولى)، حيث لعبة المفارقة في المعنى فـ (المسدس ووظفيته في القتل أصبح هو الضحية)، مروراً بالقصائد التي تمتلك ذلك، وانطلاقاً على ما جاءت به النصوص الأخرى، فإنها تستوقفنا على ثيمات مؤطرة بقضية كبرى، هي جزء من تكويننا السوسيو سياسي والسوسيو وجودي، إنها قضية حياة مفعمة بـ (الحرب.. والقتل.. والجثث.. والبحر وأجوائه المبهمة)، مع الإحساس الواضح بإيقاع الكلمات المناظرة للمعنى الشعري، نقرأ: (من الناي أشرب لحن البلاد اليتيمة/ أشرب تلويحة النوارس ظلت مذاق البحار القديمة/ وأركض منه الى جنة يزرع الشعر فيها بلاداً/ تضاهي الأسى المتشكل كالنخل.. يرفع قامته/ فيسقط ظلُّ الحروب على ثوب أمي) 
(ص36). 
إن مثل هذه الشعرية التي قرأناها، تمثل مجسّات كبيرة للوصف او أنها تستعيد لعبة الوصف للشواهد الحياتية المفعمة بهواجس الأزمات وتوالي الحروب، هي في حقيقتها تمثل مشاريع نصية عند كل شاعر، وعلي فرحان أخذ على عاتقه حقيقة أن الشعر يمثل خطابا له تشكلاته الحياتية عبر خيوط دلالية مستلة من الواقع، لكنه يرسم عبر لغته الشعرية مشاهده الخاصة (أباهي الحروب بناي يؤبّنني ميتاً في القصيدة/ ومحترفا للضياع) (ص39)، ومع احتفاظ قصائد المجموعة لإطارها التعبيري في البناء، بخاصة القصائد الأولى التي انسرحت على كشوفات متداخلة في البناء والموضوعة المطروحة، كالقصائد (نشيد السواد، وبين الناي والقطار وقتل المحارب، واحتضار الشاعر اللص، والولد الناصري)، فقد كانت بعض النصوص (فيروز، وليل معطل، وهوامش)، بمثابة تنويعات شعرية، مع احتفاظها بفنية الكتابة وبالأداء اللغوي 
الشعري..
في المجموعة هذه، ثمّة مشتركات مزجها الشاعر دفعة واحدة، مشتركات ذاتية وهاجسية انطوت على ما أفرزته مرحلة الحروب والأزمات والانكسارات النفسية، مع ما كانت به من تهجيات واستعارات وبوح ومناجاة، وهي نتيجة أجدها طبيعية، بل هي سمة القصيدة العراقية الراهنة عبر عقود ، نقرأ : 
يا قطار الحروب السريعة 
اذهب بعيداً برائحة الدم.. سوف نقفل كلّ المحطات،
فقد أرهقتنا سماء الرصاص.. وبالتْ على عمرنا غيمة الحزنِ 
(ص44).
إنَّ مثل هذه النصوص، تحاكي راهننا، مثل أية مرحلة يعيشها شاعر او مثقف ما، غير أن عوالم الشاعر مختزلة عبر (شفيرة) اللّغة، لتنطوي على صياغات بنائية خاصة، ولو سمح لي الشاعر القول بأن نسق الجملة الشعرية عندهـ في مناطق معينة ـ 
تلامس التقريرية الممزوجة بنكهة المجاز والانزياح الشعري، إذ تقوم على الفكرة مع وضوح طريقة بنائها؛ لذا نقرأ في النص الأول (نشيد السواد): (أفي الحكاية دمعةُ أخرى لنشربها/ يقول الهاربون من البلاد: سترجع الكلمات) ص8، ثم بعدها (لستَ أحلى ../ فالحكاية مثلما قالوا: سيشربنا الرحيل ولن نصل) ص15. فـ (الحكاية../ والهاربون ../ والرحيل ..)، مستعارة من خطاب واقعي كبير، ربما سيكون له بعد تاريخي لإنساننا الذي يعاني الأزمة، مثل هذا الاشتغال الشعري يؤكد حقيقة الكشف عن تفاصيلنا الراهنة، فتجربة الشاعر هي تجربة الوطن، وتجربة الانسان الذي يبحث عن وجوده عبر مساحات قلقة: (أم ترى أنَّ الدم الساري بشهقة شفتي قد باعني زبد إليك ..؟؟ / قلت إنَّ البحر يغرقْ / للبحر ذاكرةٌ تخونُ / البحر بحرٌ / هل لديكم قوائم الغرقى؟ / سأعلنهم، نعلم أنك الأول، ربان القصيدة) 
ص17. 
ولأن مشروع القصيدة هو الوجه الآخر للمحنة في تجربة الشاعر، بلا شك هي لعبة حياة، مع وجود بعض الاحتدامات الضدية التي أمسكنا بها، حيث (الحرب/ الحب)، (الليل/ النهار)، (الموت/ الحياة)، (الغياب/ الحضور)، وغيرها، هذه الثنائيات الضدية (بحسب تسمية الناقد: فاضل ثامر)، شكلت فضاءً كبيراً للكتابة، ومن خلالها أصبحت قصائد المجموعة على قدر كبير من الانفتاح، ولا بد من الانتباهة لهذه التجارب، لأنها باختصار شديد تكشف 
عن ملامح الواقع وتفاصيله 
المعاصرة..