كشفت أزمة انخفاض أسعار النفط المعروفة التي حدثت خلال العام 2014 خطورة بقاء اقتصاديات الدول النفطية ومن ضمنها العراق معتمدة على هذه السلعة الحساسة وحدها كأساس في اقتصادياتها وتدعيم مواردها، وقد عانى العراق على وجه الخصوص أكثر من غيره من دول المنطقة البترولية من تداعيات هذه الأزمة وخطورتها على اقتصاده وأمنه الوطني.
أموال كثيرة سنويا تحصل عليها موازنة البلاد من عوائد تصدير البترول، لكن هذه الأموال لا توظف بشكل يسمح بتطوير الاقتصاد وزيادة العائدات الربحية غير البترولية من خلال الدخول في مجالات صناعية مضمونة الربح كقطاع الغاز الطبيعي والبتروكيمياويات، فالعراق ومنذ اكتشاف البترول على أرضه منذ ثلاثينيات القرن الماضي يهدر وبشكل غريب أكثر من خمسة مليارات دولار سنويا من الغاز الطبيعي المصاحب للبترول في مختلف مواقع حقوله النفطية، في حين نجد أن دولة مثل قطر باتت تنافس الروس على زعامة تصدير الغاز الطبيعي كأكبر المنتجين والمصدرين له، مما جعلها تفكر في تخزين انتاجها النفطي وعدم بيعه والاعتماد على مبيعات الغاز الطبيعي وحدها كمصادر للدخل الوطني، بل هي توظف نسبة لا بأس بها من مداخيلها من مبيعات الغاز الطبيعي لاكتشاف وتطوير حقول غاز عملاقة
جديدة.
الحديث التقليدي عن وجود موارد طبيعية في العراق يمكن أن تحل بديلا عن البترول كمصادر للدخل الوطني يمكن الوقوف عنده وتحليله، فالعراق من الناحية النظرية يمتلك الكثير من الموارد كالسياحة بمختلف أنواعها، فضلاً عن المعادن المختلفة والمساحات الشاسعة القابلة للاستثمار الصناعي والزراعي، والموارد البشرية التي يمكن أنْ تدخل في منظومة التطوير والاستثمار، لكنه بالمقابل يفتقر الى البنى التحتية الضرورية من الشبكات الحديثة والواسعة من طرق المواصلات البرية السريعة التي تغطي مختلف أنحاء البلاد، والمطارات الدولية المتطورة التي تربط العراق بمختلف دول العالم والمنطقة، علاوة على نقص الملاكات البشرية المؤهلة والمتقدمة.
بنية الاستثمار تحتاج أيضا الى القرار الشجاع الذي يسمح بوجود رؤوس الأموال المحلية والاجنبية التي ترغب بتوظيف أموالها في العراق وبشكل يخدم البلاد من دون أن يضايقها أي موظف حكومي واحد او تهديد او ابتزاز من أحد من خلال حماية قانونية وسياسية تمنح الثقة لرؤوس الأموال هذه للبقاء في البلاد والاستمرار في أعمالها فيه.
البلاد بحاجة الى رؤوس أموال كبيرة والى جهاز إداري ناجح ونزيه لكي يضمن عملية التطوير لمفاصل اقتصاده المختلفة وتقليل الاعتماد على البترول كسلعة اقتصادية وحيدة تؤمن مصادر الدخل له، فمن دون ذلك سيبقى الفساد واحدا من أخطر التهديدات التي تعاني منها البلاد وبسببه أيضا تستنزف موارد البلاد المالية الكبيرة وتتبدد من قبل مافيات ورؤوس الفساد التي تقف عائقا خطيرا أمام أي محاولات حقيقية لإصلاح الأوضاع وترميمها.
استثمار الموارد وتنويعها أمر ليس بالصعب لكنه بحاجة الى خطط ورؤوس أموال توظف في هذه القطاعات والى بيئة مشجعة قوامها الاساسي الأمن والاستقرار، إذ انه من دون ذلك ستبقى البلاد أسيرة لعقلية اقتصادية تقليدية تكتفي بواردات البترول كمورد وحيد للاقتصاد، وتلهث خلف الأزمات التي تتسبب بها قوى الفساد الظلامية التي تعمل على تخريب الاقتصاد العراقي وتدميره من خلال إيقاف عمل المصانع العراقية المختلفة، فضلا عن تهديم القطاع الزراعي وإفشاله عبر فتح الأسواق العراقية امام السلع الزراعية المستوردة من مختلف الدول والمناشئ واغراق السوق بها مع العمل على محاربة المزارعين والمنتجين العراقيين وارهاقهم بالديون والضرائب وعدم توفير المياه لإرواء أراضيهم من خلال إهمال هذا الملف بالكامل والاكتفاء بالمنح المائية والهبات التي تقدمها دول
الجوار لنا.
إن العراق بإمكانه الحصول على عوائد قد تصل الى 50 مليار دولار سنويا في غضون خمسة أعوام من بداية الشروع بتأهيل قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة المتعثرة، فضلا عن الغاز الطبيعي وادخاله ضمن خطط تطوير تهدف الى التصدير والقدرة على المنافسة والدخول الى الاسواق الخارجية، وهذا بالتأكيد بحاجة الى إدارات وملاكات تستطيع النهوض بهذا الهدف وان تسعى الى تحقيقه.
دولة مجاورة للعراق مثل تركيا كانت في ثمانينات القرن الماضي دولة ضعيفة وتعاني من مشاكل وانقسامات سياسية حادة واقتصاد بطيء النمو ومتعثر، لكنها وفي غضون عشر سنوات ومن خلال الاستثمار في قطاعي الزراعة والسياحة استطاعت أن تتعافى اقتصاديا وتطور نفسها لتقوم بتصدير بضائع الى مختلف دول العالم بقيمة 250 مليار دولار، لكنها تطمح لرفع هذا الرقم الى 500 مليار دولار سنويا وهو رقم طموح، بالتأكيد يعطينا درسا بأن الأشياء التي تكون في البداية صعبة لكنها ليست مستحيلة في النهاية كما يقول الصينيون.