الحياة تجددها الصدمات أحياناً
ثقافة
2020/08/15
+A
-A
عبدالزهرة زكي
كان مساء الخامس عشر من تموز الماضي موعداً، بالنسبة لي ولأسرتي، مع ثلاثة أحداث خاصة، كان الأسعدَ بينها حدثان متوقَّعان فيما كان الثالث واحداً من أسوأ الأخبار غير المتوقعة ومن أشدها تحطيماً لأية مسرّة ممكنة في هذه الظروف الشحيحة بمسرّاتها.
سأبدأ بأول الحدثين السعيدين في تلك الليلة، وكان اتصالاً من البصرة، من الصديق الدكتور صفاء ذياب، كان صفاء يخبرني فيه بوصول نسخ أولى من كتاب (حياة تتهدد) من المطبعة. سعادة إنجاز كتاب (وهو تأليف مشترك مع الدكتور لؤي حمزة عباس) في ظرف استثنائي كانت كبيرة، وكانت طباعته بهذه السرعة ونشره في هذا الظرف، الذي ما زال مستمراً، داعياً لسعادة مضاعفة لا ينال منها سوى مشكلة توزيع الكتاب، أيّ كتاب، وهذه معضلة فعلاً بغياب حرية الحركة والتجمع من جانب أساس، وبغياب التوزيع الالكتروني، من جانب ثانٍ، كفرصة ممكنة للعمل بالنسبة لمعظم الناشرين في العالم تحت أعباء ظروف الوباء وتقطع العمل التجاري والثقافي.
ثاني الحدثين السعيدين كان يعود إلى ما قبل تلك الليلة إذ نبهتني أم حيدر إلى أن يوم الغد، منتصف تموز، سيصادف عيد ميلاد كلٍّ من حيدر، ولدنا، وعلي بلال، حفيدنا، الذي انتظمت ما بيني وبينه صداقة استثنائية وممتعة حقاً.
تحتاج الأسرة لما يسعدها وسط هذه الكآبة المجتاحة للمجتمع البشري ككل بفعل الوباء. فكرت مباشرة بحفل عيد ميلاد مشترك وافتراضي للابن وللحفيد؛ حيدر في منزله مع أسرته، وعلي مع والديه وأخوته.
في ظروف كورونا سيكون من غير الممكن جمع الجميع في عيد ميلاد، هناك مناسبات أكثر أهمية بمقياس التقاليد العراقية وقد فرضت عليها ظروف كورونا منطقها القائم على تكريس أوضاع التباعد والعزلة والتنائي ما بين البشر، حتى داخل الأسرة الواحدة، كحلٍّ وحيد متاح لتفادي الإصابة بالوباء.
" ليكن عيد ميلاد افتراضياً، ليبقَ الجميع في منازلهم، سأتكفل بشراء كعكتي ميلاد حيدر وابن أخيه، وسيوفر الانترنت المشاركة في حفل فيديوي افتراضي"، قلت لأم حيدر.
تبلّغ الجميع بذلك أثناء نهار اليوم التالي الجميع، وجرى الاتفاق على الطبيعة الافتراضية لحفل عيد الميلاد.
منذ أسابيع لم تلتق الأسرة مجتمعة بشكل مباشر، توقعت أن فكرة الحفل الافتراضي لن تروق لمزاج كثير من أفراد الأسرة إن لم تؤدِّ إلى مفعول عكسي يضاعف الشعور بالبعد القسري. الأصل في الاحتفالات هو تجمع البشر واشتراكهم الحي والمباشر في المسرة. لكن المشاركة القائمة على قاعدة التباعد
لا التجمع هي المتاح الممكن حالياً. وحالياً تكرس تصور، وهو صحيح، بات التباعد بموجبه فرصة النجاة الوحيدة لضمان السلامة، وتنطوي هذه الحال على مفارقة حين نفكر بأن نجاة أي فرد ليست ممكنة بقرار أو تصرف شخصي منه بل هي منوطة بتضامن الجميع على الالتزام بقواعد التباعد كما توصي بها الجهات الصحية الدولية والمحلية، التباعد مجرد محاولة لتفادي الاصابة. قد يتفهم الكبار ذلك فيتقيدون بفروضه، لكن ماذا عن الصغار؟
عصراً جئت للبيت بالكعكتين وقد توشّحتا بتهنئتين لحيدر وعلي. وفّرت أم حيدر من جانبها الشموع ومستلزماتٍ أخرى. وتفاجأنا عند أول الليل بوصول أسرة بلال بناء على ضغطٍ من المحتفى به، الحفيد علي، الذي أصرّ على حضور حفل عيد ميلاده الذي تكفّل به الجدُّ والجدة.
ومع حضور أسرة بلال اتصلت أم حيدر بحيدر، طلبت منه حضوره وأسرته ما دامت الصيغة الافتراضية للحفل قد كُسرت بموجب إرادة شريكه في الحفل، ابن اخيه. وعدها حيدر بالحضور، لكن حتى قبل موعد الحفل منتصف الليل بقليل لم يأتِ حيدر، توقعنا أن برنامجه التلفزيوني اليومي يتعارض مع حضوره بتوقيت مناسب، لا بأس في أن يتأخر الحفل قليلاً حتى مجيئه. قبل انتصاف الليل بقليل جاء اتصال هاتفي من حيدر لوالدته يعتذر فيه من الجميع عن الحضور بفعل طارئ في العمل، كما قال، اضطره للتأخر.
كان اتصالاً مقتضباً جداً، بدت أم حيدر قلقة من طبيعة الاتصال، لم أبتعد أنا لأكثر مما جاء في تبرير حيدر لعدم حضوره. ينبغي أن يستمر الحفل، بميلاد علي، وتأجيل حفل حيدر ليوم تالٍ، فكرت هكذا. استمر الحفل بسيطاً، وباهتاً، ثمة ما ينقص الحفل، ثمة ما عكّر المزاج من دون معرفة هذا الذي عكّر المزاج.
واقعاً لم يكن حيدر حينها منشغلاً بطارئ في العمل.
ففي صباح اليوم التالي استيقظت على اتصال هاتفي مبكّر من حيدر، وكان يحاول فيه التخفيف، قدر ما يستطيع، من هول ما يريد قوله وما سأسمعه:" بابا، البارحة أتوقع ظهرت عندي أعراض الإصابة بكورونا، لم أنم طوال الليل جراء ارتفاع درجة حرارتي. كان هذا سبب عدم حضوري الحفل، لم أرد
تكدير الجوّ عليكم في الليل".
لم أقوَ على قول أي شيء.
واقعاً كنت أتوقّع إصابة حيدر، ربما تحدثت عن هذا التوقّع في كتابي المشترك مع الدكتور لؤي حمزة عباس (حياة تتهدد) الموضوع والمنشور في أيام حظر التجول، وكان عن حياتنا تحت تهديد الوباء.
أتوقع كذلك أن حيدر كان هو أيضاً يتوقّع أن يُصاب، لم يصرح بهذا لكن فهمت إصراره على البعد عني وعن والدته خلال الأسابيع الأخيرة على أنه تحسّب من احتمال الإصابة، وبناء على هذا فقد كان يتفادى بابتعاده أن يكون سبباً في إصابة أمه أو أبيه.
لا يستطيع حيدر أن يمنع نفسه من أن يكون دائماً مشاركاً الآخرين آلامهم ومسراتهم، هذا ما جعله طيلة الأشهر الأخيرة، أشهر الوباء، حاضراً في ما تعرّض له أصدقاؤه من الوسط الرياضي العراقي جراء كورونا، كما في حالتَي الراحلين علي هادي وأحمد راضي. قبل هذا، ومع بدء الوباء وحظر التجوال ومع نُذر الأزمة الاقتصادية للأسر الفقيرة، فقد شارك حيدر عدداً من أبرز الرياضيين ومن التجار وميسوري الحال في حملة تبرع بسلال غذائية للأسر في الأحياء الأشد فقراً ببغداد وببعض المحافظات. كان هذا في رمضان الماضي، وكان حيدر خلال الحملة يتحرك ويجمع ويوزّع، لم تمنعه الخشية المتفشية جراء الوباء عن مخالطة الناس والاقتراب منهم بقصد مساعدتهم.. كل هذه التفاصيل كانت تدفع للقلق من احتمال إصابة حيدر في أي حين، وزاد في هذه الخشية أن أكثر من بطل رياضي وطني كانوا ضيوفه في برنامجه التلفزيوني الرياضي وذلك قبل يوم أو يومين من اكتشاف إصابة بعض هؤلاء الأبطال بفيروس كورونا، ووفاة بعضهم نتيجة الإصابة.
بقلب الأب كنت قد تحدثت إليه مرات كثيرة عن خشيتي عليه، لكن بروح الإنسان لم أجرؤ على منعه أو تحريضه على التوقف عن فعل الخير في مثل هذا الظرف الصعب وعن مواصلة الحياة والعمل كما يحب. كنت قلقاً عليه، وكانت أمّه أشدَّ مني قلقاً، وكان هو في كل مرة يحاول بروح مرحة تهدئة هذا القلق مما هو متوقع، لكن التوقع شيء وحصول المحظور شيء آخر.
لقد وقع المحظور فعلاً. لم أقوَ على الكلام فيما كان حيدر يبدو في اتصاله أقوى مني تماسكاً ورباطة جأش. كان يريد التهوين من المحظور وقد وقع، والتخفيف من وطأة ما يمرّ به من معاناة. قلت له: "سأجيء أنا وبلال إليك لنقلك إلى هنا، إلى الشقة، سنفرغها لك، ليس صعبا أن ننتقل أنا وأمك لمكان قريب.. يجب يا ابني أن تكون قريباً منا خلال هذه الأيام". راقت له الفكرة فيما كان يحاول، كما بدا لي، أن يضحك وهو يقول: "لا، ليش تجي أنت وبلال..؟ ما زلت أقدر على المجيء وزوجتي وآدم، ولده، بسيارتي". كان يحاول الضحك وبدا لي أنه غير قادر على ذلك، وكان هذا يضاعف تمزقي.
كنت أريد إنهاء المكالمة بأية صيغة. قد لا أستطيع في لحظة معينة، أثناء الحديث، منع انفجار حزني وألمي، اعتدت دائماً على أن لا أكبح حزني وتعبيري عنه حين أكون حزيناً. لكني أمام ظرف استثنائي جداً، لم أعشه من قبل، إنه ولدي وقد بات في قبضة الوباء الأشد فتكاً.
يجب أن أتماسك، يجب أن أعزّز هذه الشجاعة في حيدر والتي عادة ما يكون ممسكاً بها في أصعب الظروف. أدرك، بفعل متابعتي الشديدة للوباء ولخبرات العلماء والأطباء والجهات الصحية الدولية، أهمية العامل النفسي في مواجهة الوباء، وكان كلام حيدر يؤكّد لي تماسكه النفسي، يجب أن أساعده في
ذلك.
ولكن كيف لي، وأنا شديد التحسب، أن لا أُشغل بهذا القدر العجيب الذي تزامن فيه يوم عيد الميلاد بيوم الإصابة بكوفيد 19.
أي قدر هذا!
أقلقتني هذه المصادفة، وهذا ما لم أتحدث به مع أحد.
التتمة بمقال تالٍ.