«سينمات مَنَحَتْنا البهجة».. دروسٌ من واقع الحياة والخيال

الصفحة الاخيرة 2020/08/15
...

رضا المحمداوي 
 
 
 
في مجموعتهِ القصصية الأخيرة (الرحلة العجيبة للسيد ميم) أفردَ القاص والروائي الراحل: محمد علوان جبر نصاً قصصياً تمهيدياً تحت عَتَبَة (الإهداء) وأهداهُ إلى (سينمات منحتنا البهجة)، وقد أراد القاص أن يكون نص الإهداء) مستقلاً ومنفصلاً، حتى أنهُ لم يدخلْهُ في فهرست (محتويات) المجموعة القصصية التي تَضَمنتْهُ، بل شاءَ أنْ يتركَهُ هكذا قائماً بذاتهِ وممهداً لعوالمِهِ السردية.
 وبالارتباط مع ذلك الإهداء يجيءُ النص التمهيدي والذي هو بمنزلة المُقدِمة بخمسة مقاطع منفصلة - متصلة سُميَتْ بأسماء دور العرض السينمائي وهي كالآتي: «الخيام»، و «أطلس»، و «الوطني»، و «العلمين»، وأخيراً  «سينما الحمراء».
ورغم أنَّ القاص الراحل يَضعُنا مباشرة في واحد من تلك المقاطع الخمسة في جغرافية المكان «البصراوي» حيث الباص الخشبي الذي يتركُ وراءَهُ بيوت (الإبلّه) قاصداً (العشّار) قبل أن يقف في ساحة (أم البروم)، إلّا أن أسماء تلك (السينمات) تبقى مألوفةً لدى الكثير من رواد السينما في المحافظات الأخرى، في كركوك مثلاً، أو الموصل، أو (الديوانية) أو (الحلة).
أمَّا في بغداد فلها وقعها الخاص في الذاكرة، إذ ما زالت هذه الأسماء
من دور السينما شاخصةً أمام عيوننا ونستعيد، أمام بوَّاباتها ومبانيها المتهالكة، ذكريات عصيَّة على النسيان عن أفلام العيد والعطل والمناسبات. 
إذن هي (سينمات) المُستلّة من مفردة (سينما) بمعنى دار العرض السينمائي، وكأني بصديقي القاص الراحل (محمد علوان جبر) أراد أن يحافظ على جمعها بصيغتها الشعبية الدارجة (سينمات)، ومثلما كنا نقولها ونتداولها نحن من بين أجيال عدة كانت مبهورة ومندهشة ومأخوذة بالطقس الجميل الخاص بعرض الفيلم السينمائي إذ يحَّلُ الظلام التدريجي في صالة العرض، ويشق الفيلم طريقه بموشور الأضواء الملوَّنة في تلك الظلمة الحالكة، في حين تكون عيوننا قد تسمّرتْ نحو قطعة القماش البيضاء وهي تعرض أمام أنظارنا تلك العوالم العجيبة والغريبة لتمنحنا تلك (البهجة) التي لا نريد لها أنْ تنتهي أبداً حتى بعد انتهاء الفيلم، إذ كان يساورنا القلق بزوال تلك المتعة منذ اللحظات الأولى التي يبدأُ بها الفيلم نفسه، ولذا ترانا، خاصةً إذا أثار الفيلم شهية الإعجاب والافتتان لدينا، نعاود مشاهدة ذلك الفيلم المرة تلو الأخرى في محاولة يائسة من أجل الاحتفاظ بتلك المتعة أطول مدة ممكنة كي نختزن في ذاكرتنا الغضة الطرية، أكبر قدر ممكن من الانبهار والبهجة. 
ومن خلال تلك (السينمات) الخمس إذ خصَّص المؤلف لكل (سينما) مقطعاً خاصاً بها، ندخلُ الى عوالم الفن السينمائي ونجومه وممثليه وعوالمه المرتبطة بذكريات الصبا والمراهقة وما طَبَعَتها الأفلام في تلك الذاكرة والمخيلة البكر..
وكان على الطالب المولع بحب السينما أن يترك الصف والدروس المملة ويقفز ليتسلق سياج المدرسة كي يلحق بموعد عرض الفيلم وأثناء حركته السريعة يسمع رنين قطع «الفلوس» المعدنية وهي تطلق موسيقاها الجميلة في جيوبه، إذ سيخرج بعضاً منها كي يتزود بـ «لفات الفلافل والعنبة»، أو البيض المسلوق مع الطماطم قبل أن يبدأ رحلته الى العالم السحري التي تبدأ أولاً بالوقوف عند شباك التذاكر لاقتناء التذكرة الصغيرة وينطلق في عالمه الرحيب حيث يطل علينا «ماجستي» بوسامتهِ إزاء  «هرقل» بلحيتهِ وقوته فيلقي الأخير شباكه على جسد «ماجستي» ويسقطه أرضاً، في حين يقفز «طرزان» من شجرة إلى شجرة أخرى بواسطة الحبال المتدلية وتتبعهُ القردة «شيته» وتصرخ وراءَهُ، ووسط هذه الأجواء والعوالم يبرز اسم الممثل الشهير (برت لانكستر)، لكن ممثل آخر هو (كيرك دوغلاس) الذي حفظ اسمه جيداً وردَّدهُ عدة مرات كي لا يغيب عن بالهِ، سيضعهُ في حيرة واستغراب فيما آلَ اليه هذا الشاب بقبعته وبنطاله الكاوبوي العريض ومسدسه وحركاته الرشيقة والخفيفة وهو يطلق الرصاص على العصابة التي يطاردها وهو يمتطي صهوةَ جوادِهِ في البراري المقفرة .
فقد مرَّت السنين وها هو (كيرك دوغلاس) يظهر على شاشة التلفزيون وقد تجاوز عمره المئة عام يجلس على الكرسي المتحرك بجسدٍ هزيلٍ ووجهٍ شاحبٍ وقد استحال إلى شبح إنسان.
لقد انتهى الفيلم... وتلاشى الظلام... وأُضيئَتْ صالة السينما وعلى طلاب المدرسة الغائبين أن يتسلقوا جدار المدرسة مرة أخرى ويعودوا الى الصفوف لكي يتعلموا درساً جديداً عن الحياة... من دون أن ينسوا درس السينما الذي لا ينتهي.