حروب الإنكار

آراء 2020/08/17
...

حسن جوان
ربما بلغت حرب الانكار بعد تفجير بيروت ذروتها، عبر اعلان جميع الأطراف المتصارعة براءتها من مسؤولية التورط فيه جملة وتفصيلا، وكان الطرف المرشح الأكثر بدهية لمثل هذا التحضير المهلك هو الأسرع في اعلان براءته وعرض المساعدة، ليتبعه اكثر حلفائه "الوطنيين" بالتزاحم على اشغال الميديا بصراخ الاتهام ولعب دور الضحية من دون الاتيان على ذكر المتسبب المباشر داخليا او خارجيا، ليفضحوا بذلك طبيعة التدريب المتقن لمرحلة ما قبل الكارثة.
تكتيك الإنكار بدأ كمرحلة حاضرة كنوع قديم تم استحضاره في هذه المرحلة بين اطراف الصراع الإقليمي والمحلي لمنطقة الشرق الأوسط، على الرغم من تعارضه الصارخ مع أرضية القناعات والتسلسل المنطقي لكل حدث ينتمي لسياق واضح من التتابع ووضوح الدليل وبصمات الفعلة في كل مكان، إذ لم يعد المنطق الذي على أساسه يتم توجيه الاتهام المستخدم حتى في ابسط قرائن الأدلة الجنائية الفردية هو ذاته المستخدم تكتيكيا في ادانة او تبرئة احد اللاعبين في هذه الخلطات، التي جعلت من منطقة الشرق الأوسط عبارة عن حقول صناعية للرمال المتحركة القادرة على ابتلاع الأنظمة والشعوب معا وزعزعة الكتل الاقصادية والصحية والسياسية بالسهولة ذاتها والطريقة المدويّة. 
ثمة مساران لما يحدث في الأشهر القليلة الماضية على مختلف عناوينها الداخلية والإقليمية من حراكات وصدمات عسكرية واقتصادية وصحية، مسار يعتمد على الدليل وآخر يعتمد على القناعة، يبدو الان ان الدليل هو شيء قابل للجمع والفبركة والتبرير عبر اتفاق وتواطؤ فاعلين على مستوى الاعلام وصناعة اجماع ملفق لتمرير قرار نرضخ لواقعيته من دون ان نؤمن بعدالته، على نقيض روح مقابلة يتبناها حدس القناعة لدى فريق مقابل يتحرّى المستفيد من مآلات الأمور لا بصراخ شعاراتها المذهّبة العالية لكن بفلتاتها وانتهازيتها وتوجيهها نحو هدف محدد هو ذاته الذي تسعى اليه قوى تتصف بالعداء وتوظف له من يقدمه لها صافيا من دون تدخل مباشر منها. 
عملية قصف منشآت أرامكو السعودية، ومفاعل نطنز وغيرها من منشآت إيرانية، واتصال الخيط بمرفأ بيروت على ذات سياق الصمت والنكران بين متحاربين لم يقررا بعد تحمل مسؤولية عملياتهما المتبادلة لكيلا يصل هذا الاعتراف الى ذريعة للادانة الدولية او مبرر لاعلان حرب مباشرة وليس بالوكالة او بالصبر والانكار على إيذاء الخصوم.لذّة الخصومة في مثل هذا الانكار واستمرار الحرب من هذا النوع انما تغذي تحدّياً نرجسياً عميقاً ونوعاً من التسلية والتباري في المطاولة في من سيكون الادهى والأمرّ عداوة في حربه المتذاكية مع خصمه المعلن، انه يمتلك كل القناعة حتى لو لسعته بعوضة عابرة بأن خصمه له اليد في ذلك، لكن حرقة القناعة تلك لن تخفف من منطق الدليل الغائب حول علاقة البعوضة العابرة بعين الأسد الدامية، أي شكوى ها هنا ستثير السخرية وتزيد شماتة الخصم والبعوض معا، وهنا لذّة الانكار وزمّ الشفاه الكليمة لحين جولة قادمة.