سرديّات الأنوثة عبر لعبة الوجود اليومي

ثقافة 2020/08/18
...

د. رسول محمد رسول
رواية (مملكة النحل في رأسي) للقاصّة الإماراتية مريم الساعدي التي سبق وصدرت لها مجموعات قصصية تباعاً منذ سنوات، لكنها، هذه المرّة، اصطفت أن تنشر رواية وصدرت عن داري ضفاف ومنشورات الاختلاف في بيروت والجزائر سنة 2019، رواية كنا ننتظرها منها حتى جاءت اللحظة لنقرأها؛ إذ بدت مجموعة حكايات ذات عناوين مستقلة سبكتها الساعدي في قالب روائي يبدو تجنسيها واضحاً بوصفها رواية عبر ملفوظ تجنيسي - «رواية» - ظهر في الغلاف، وبذلك تخلّصت الكاتبة من إشكال التجنيس بين قصّة ورواية، وبذلك أيضاً تضيف إلى المشهد الروائي الإماراتي الإبداعي عملاً إبداعياً جديدًا.
وأوضحت الساعدي في حوار لها مع الإعلامية الراحلة «مريم جمعة فرج» كان نُشر في يوم 26 آذار/ مارس 2019 في جريدة البيان بأنها تعمل على «ولادة الفكرة التي يأخذها الفنان لمصنع الإبداع في عقله، ليحضر خلطاته الخاصّة ممزوجة بأفكاره ومشاعره وتجاربه، وليخرجها، في النهاية، عبر قوالب بتراكيب لغويّة تمثل صوته الخاص على شكل عمل أدبي». 
وقالت إنها «لا تمتلك النَفَس الطويل لكتابة فصول طويلة متلاحقة لرواية على النمط الكلاسيكي». وتؤكِّد بأنها، وفي روايتها هذه، «أرادت أن تعكس الروح الواحدة المشتركة التي تربط الحكايات»، وليس كتابة «رواية بصوت واحد، ولكنْ بروح واحدة توحِّد العمل» في ضوء رؤيتها بأن «الحياة، في الأساس، هي عبارة عن قصص منفصلة يوحّدها السعي الجمعي نحو محاولة العثور على الأجوبة» ونحن نجد صدى ذلك واضحاً في (مملكة النحل في رأسي).
 
تجنيس روائي
هذا الكلام جاء بعد صدور روايتها هذه، وهو يبرِّر، ومن دون مغالاة، طبيعة كتابتها في هذه الرواية؛ فهي رواية تحمل تجنيساً روائياً من خلال التسمية على الغلاف «رواية»، كما أنها «رواية» عندما تلجأ إلى «الروح الواحدة المشتركة التي تربط الحكايات» وعلى الصعيد البنائي في كل حكاية قصيرة، وهو تكريس غير كلاسيكي في الكتابة الروائية تزفه الساعدي لقرائها.  
في هذه الرواية، تنزل مريم الساعدي إلى سوق الحكايات وما أكثرها في هذا السوق لتستعين بالفن السردي، والحكايات في هذه الرواية، كما في مجامعها القصصية القصيرة المنشورة سابقاً، هي مُداهمَة بحضور اليومي الذي يضغط على مخيال القاصّة فتسرّده حكياً روائياً، كما هو صنبور الماء الذي ينقّط الماء بلا توقّف، وغطاء غسالة الملابس المكسور، وبقية الأشياء الأخرى التي اهترأَت، ومن ثم صديقتها وزميلتها في العمل «خديجة» التي تحب احتضان الآخرين، وخالتها التي تؤشِّر عنوستها، وزملاء وأصدقاء لها في العمل، و»الآخر» الرجل الذي تسرد أوضاعه ليس بعيداً عن ذاتها ووجودها، وجميع هؤلاء وغيرهم في الحكايات الأخرى هم فاعلون (الفاعلون Actors) في حكايات الرواية كلها، أولئك الذين تسرد الراوية الحاضرة في السرد (Attendees narrator)   بضمير الأنا (Person) من داخل الحكي (Intradiegetic)  حتى لتصبح الراوي العليم عبر علاقات تتشكّل سرداً فتتوغّل في تفاصيل حيوات لأفراد وجماعات ضمن مواقف سردية أخرى تباعاً، فالحكايات لا تنتهي، خصوصاً تلك المتعلّقة بحياة الراوية (Narrator)  ليس بعيداً عن علاقاتها مع الغير وهم الآخرون وجُملة ما تراه وتسمع به من مآس ومشكلات فحتى النمل «صار يعرف أن الإنسان لم يعد مصدرًا للثقة»، وكل ما يجري بالعالم من مشكلات أغلب مصادرها
 الإنسان نفسه.
يبقى الفن الروائي مستحوذاً في أحداث الرواية حتى يظهر ملفوظاً مسرَّدا عندما سألتها صديقتها «خديجة» مرّة: «ماذا حصل لروايتك الجديدة؟» لنفهم أن الأنا الروائية في الرواية (Faction) هي امرأة/ أنثى روائية فتعوِّل على معنى الكتابة؛ و»الكتابة تحتاج إلى روح»، وهي التي أعلنت بأنها «تُحب الكتب». وتتحدَّث الراوية العليمة أو الفاعلة (Narrator agent) عن حالاتها وحالات آخرين لتسردها حدّ التفاصيل الدقيقة في تحوّلاتها الذاتية والنفسية والأهوائية بين فرح وحزن وضياع وتمرّد وألم ويأس وانتظار وفقدان.
 
تسريد «الآخر»
ولعل عنوان «عسل الحياة» في الرواية يبدو أكثر إمعاناً في تسريد «الآخر»، وهو حبيب تناغيه الراوية/ البطلة، هذه المرّة، والتي شعرت ذات صباح بأنها امتلأت به أكثر، وأنها تجد فيه «الصورة الكلّية للكون»، وتخاطبه بأنها حين «تراه» ترى نفسها أو «حين أراك أراني» بحسب الملفوظ السردي، ويشغلها الغياب، غيابه، حتى تخاطبه: «تبحث عن نفسك في الغياب، ترحل، تترك الجميع، يحرث الهواء في حقل غيابك»، وهنا تبدو شعرية تسريد الآخر فائقة في وقعها.
تستعيد الراوية أو الناصّة (Textor) المغفرة أو الصفح (Forgiveness)  في علاقتها مع الآخر، فمع أنها تصوّر شخصاً بأنه صرصار لكنها تصفح عنه مهما فعل حتى لتقول: «انتابني هاجس لاحقًا أنك قد تكون ألقي بتعويذة ما على قلبي، فلا أحبّ سواك يوماً مهما غدرت، وابتعدت». ويتكرر الصفح في مواقف أخرى، ومع شخصيات أخرى في الرواية.
تحت عنوان «صورتي الظاهرية» تنساب الذات بالحديث عن نفسها بكل ما تجود به المخيلة، أمنيات، أحلاما، ترسم الذات الحاكية في حياتها، ولم يكن «الآخر» بالبعيد عن كل ذلك؛ فثمَّ «رجل يجلس على مقعد خارجي في مقهى مقابل..»، وهذا الرجل يفتح شهية الراوية وهي في طريقها إلى عملها. على أن الأمر يتكرر في فصول أخرى داخل الرواية مثل «الشجرة» التي تنظر إليها من داخل مكتبها، وكذلك مثل ذاك الرجل الذي تتمنى أن تكون «سيجارة ترطبها برضاب شفيك»، وأيضاً «أنت هنا في مهمّة تخصني»، وحديث عن «تفتت وجودي»، والضمير هنا يعود على الراوية في حديثها عن ذلك التي اختفى من حياتها لكنها تنتهي الى القول: «الأهمّ أني أحبك»، بعد أن تسرد ذاتها الوجودية المنثورة بين كل الأشياء بهمس رومانسي عذب الطيّات تحتفي خلاله الذات الساردة/ المسرودة بذاتها ليس بعيداً عن الآخر.
 
أنثى الكتابة
هذا الآخر الذي يرتقي إلى مستوى خيانته (أحد الآخرين وهو رجل) عندما تركها وذهب إلى أخرى لا تمتلك مهارات الكلام ولا الكتابة بكل فنونها أو المستهترة «باللغة كوسيلة للتعبير عن الفكر»، لا سيما أننا كنا «أنا وأنت» من أولئك المنتمين إلى «الضفة العقلانية»، وكنتُ «أحبك ولكن كانت علاقتنا فكرية»، واليوم «أنت تراها ولا تراني»، ويبقى الشعور الرومانسي ضالعا بذاته عندما تقول لها صديقتها «زهيرة» بأنك «لا تسمعيني، أنت تسمعين نفسك»!
وهكذا تنساب روح السرد في رواية (مملكة النحل في رأسي) حتى يتوقف الحكي فيها عندما يدخل دبورٌ ليوقف الهدير، هدير السرد، عند حدوده، إذ «يبدو أن دبورًا دخل رأسي في يوم ما، وقضى على مملكة النحل فيه، يعمّ الهدوء الآن، يعمّ الفراغ، ولا أستاء..»، فالسرد سوف يتواصل صوب الآخرين ليسوا بعيداً عن الراوية ذاتها لتتضاعف شؤونه إلى
 ما لا نهاية.
من الناحية السيميائية، يبدو غلاف الرواية معبراً خير تعبير عن مضمون الرواية؛ بل هو أجمل أغلفة أعمال مريم الساعدي المنشورة حتى الآن حتى ليأتي في صميم دلالة الرواية فالنحل يحضر كمداهم لجسد الأنثى من جهة الظهر محيطاً بموجوديتها والتي أفرغته الناصة مقولاً سردياً 
رومانسي المنحنى.