أمين قمورية
من زمان ليس ببعيد، كان لبنان منتجعاً ومصيفاً ودار نقاهة لاخوانه العرب... يصدّر إليهم الثقافة دواوين الشعر والروايات والقصص والمجلات الأدبية، وأهل الفن والفنانين، والاهم: الأفكار المبشّرة بالتغيير والدعوة إلى حرية العمل السياسي والانفتاح على الجديد في العالم، أما بعد حربه الأهلية، التي كانت بعض الأنظمة العربية شريكة فيها، فأخذ يصدّر أو يعيد إليهم بعض نتائج تلك الحرب التي خرّبت لبنان وسمّمت العلاقات
العربية - العربية. وهكذا دخلت القاموس السياسي العربي تعابير مستجدة أو مستعادة من بطون عصور الظلام والانقسام والفتن، فإذا المسلمون سنة وشيعة ودروز وعلويون وإسماعيليون وزيود وإذا المسيحيون موارنة وأرثوذكس وكاثوليك وانجيلييون، فضلاً عن السريان والكلدان والآشوريين الذين يتوزعون بين أكثرية أرثوذكسية وأقلية كاثوليكية، واذا بالاقليات الاخرى اقليات منسية لا تذكر الا يوم المجازر بحقها، مجددا يعلو الخطاب المذهبي حتى يكاد يطمس الخطاب الوطني، في لبنان وبقية المنظومة العربية، وتتفجر الخلافات التي كانت سياسية صراعاً طائفياً أو مذهبياً، ويقتبس الكل من التجربة اللبنانية المرة أقسى فصولها الدموية التي كادت تدمره في حرب أهلية مديدة لم نتخلص من آثارها بعد، ولا يبدو أننا سوف نتخلص منها في يوم قريب، لقد "نجح" العرب في استيراد أسوأ ما في النظام اللبناني تحت مسمى الديمقراطية التعددية لتمويه الطائفية والمذهبية، وأضافوا إليها بعض ما جاءت به الأصوليات والسلفيات، وها هم يصدّرون إلى بعضهم البعض "خيرات" هذه التنظيمات.
سرطان الطائفية والمذهبية ضرب سوريا متسبباً في تحويل الصراع السياسي إلى حرب لا تنتهي، وكاد يفتك بالعراق ناشراً خطر التقسيم بالفتنة، في حين اجج كل تناقضات التاريخ في اليمن الذي بات فعلا يمنين لا يمناً واحداً ، بعدما قسم السودان الى دولتين، لبنان يلامس مجددا خطر الاهلية من دون ان يسقط فيها حتى الان، الا ان سياسييه وخلفهم مثقفو السلاطين ادعياء الفكر والمعرفة والعلم، يصرون على بقاء بلدهم الصغير كانتونات طائفية متواجهة بالحقد والتعصب، وتفتقر إلى التوازن في علاقاتها، ويساندهم في ذلك اعلام اهوج عن قصد او غير قصد، مهمته التهييج لملء الفضاء والاثير على حساب ما هو مفيد ومسل، والمشكلة الاكبر ان الفروقات الضيقة (فعلياً) بين الناس، تتحول الى مسافات ومساحات كبيرة، بسبب النزعة الانعزالية التي صارت مرضاً مشتركاً عند كل الشعوب اللبنانية العظيمة.
حالة النقاء الطائفي تكرست كثيراً في سنوات السلم الاهلي الكاذب بين عامي 1992 و2005. وهي تعززت اكثر بين عامي 2008 و2015، وربما نشهد آخر فصولها الآن، في ضوء الدعوات الحثيثة الى الكونفيدرالية والفيدرالية والتقسيم وغيرها من الافكار الشيطانية، التي ينسى بعض اللبنانيين أنها جُرّبت، ودُفعت لاجلها الاثمان الكبيرة من الدماء والثروات، ومع ذلك، يريد بعض الزعماء تكرار اللعبة. والاخطر، أنه لا يزال بين الناس من يأمل ان تنجح المحاولة الجديدة.
والمسؤولون عن حفلة الجنون الحالية التي سبقت كارثة المرفأ واستعرت بعدها، هم حصراً أولئك الذين تولوا ادارة الدولة برعاية الخارج منذ أربعة عقود او خمسة عقود.
هم الرهط الذي قاد الناس الى الموت والذل اكثر من مرة، ولم يحاسب، هم الذين اعجبتهم فكرة الزعامات الطائفية الضيقة ولم يحسنوا اظهار قوتهم إلا من خلال عصبيات لا تنتج سوى القهر والدمار والدماء، ومعهم ايضاً من اعتقد ان القبلية الطائفية او المذهبية هي الحصن الحقيقي له ولشعاراته ولمواقفه ولتطلعاته. لكن الجنون لا يكتمل الا بفشل الدولة، وفشل الدولة مسؤولية يتحملها أيضاً كل السياسيين الذين تصرفوا على اساس ان الدولة اقطاعية طائفية
ومذهبية.
منهم من اقتحم الدولة بحجة انتزاع حقوق مهدورة منذ قيام الكيان، ومنهم من مارس السطو على الدولة بحجة انه الاقدر على إدارتها، ومنهم من جاء أخيراً، راكباً على حصان يثير الغبار في كل ناحية باسم استعادة الحقوق المهدورة، والى جانب هؤلاء، يسيطر لصوص المال على المصرف والاملاك البحرية والنهرية والشركات الحصرية وقطاعي التأمين والاستشفاء والدواء لأجل ابتلاع كل شيء بحجة الاقتصاد الحر، الآن وبعد اندلاع جحيم الانفجار، ركضوا جميعا لستر هذا العار. يتبرؤون منه، ولا يجرؤون على الظهور بين الناس يفضلون مخاطبتهم عبر الشاشات الفالتة من عقالها والعقل، هل يأتي الترياق بتوافق خارجي؟ لا، لا حاجة للسؤال عن مصالح اميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية والامارات في لبنان، وهي قطعاً ليست متطابقة مع مصالح تركيا الضيف الجديد على الساحة، ولا ايران، حتى ولو كانت الاخيرة تستهدف بناء جبهة متكاملة لا يحتل لبنان سوى رقعة صغيرة من لوحتها، لكن الآخرين لا يهتمون ولم يحصل ان اهتموا يوماً بمصير اللبنانيين. هكذا تصرفوا منذ بدء الاستعمار الى مرحلة الغزوات الكاملة الى ايام الاستعمار الاقتصادي والامساك بلقمة اللبنانيين.
وحظ هؤلاء في أنّ بيننا حشداً من المجانين، يراهنون اليوم على احتلال مقاعد الحكم في البلاد، اما من يضيع بين الأرجل، فهو حشد كان يمكن ان يكون كبيراً وقوياً، عنوانه الشباب المحتج على كل النهب والقهر، هذا الشباب الذي لا يزال يرفض مراجعة بسيطة لتجاربه التي لم تثمر شيئا من الانتفاض في
الشارع.
المشهد محبط، كل الطرق تؤدي إلى بقاء لبنان مخلعاً مشلولاً فاشلاً كئيباً، بل سيمعن أكثر في الشقاء، أما الانفجار الكبير، يبدو إنه ليس خاتمة الاحزان ومع ذلك مازلنا نؤمن بالمستحيل الوطني، فالوطن يبنيه مواطنون ومواطنات، لا رعايا في مزارع وقبائل وعصبيات، هذا خلاصنا الوحيد كلبنانيين وسوريين وعراقيين ، فالمواطنة نقيض الطائفية ذلك المرض المزمن المولد للحروب الاهلية والازمات التي لاتبني اوطانا بل تذهب بالدول وتمزق شعوبها فرقا وجماعات مقتتلة إلى يوم الدين.