ملامح النص الغاضب
ثقافة
2020/08/22
+A
-A
علي لفتة سعيد
إن المتغيرات الكبيرة التي حصلت وتحصل في العالم أو حتى جزء من العالم هي كفيلة بإحداث تغييرات ايضا في البنى الارتكازية لهذا المجتمع او ذاك.. وأن هذه المتغيرات التي لا بد أن تكون عظيمةً أو لنقل كبيرة وواضحة وحاملة لعلامات المتغيرات، سواء كانت سلبية ام إيجابية، فإنها تؤثّر في الفاعلية الجمعية للمجتمع، ومن ثم الفاعلية الجمعية للثقافة وانتاجها، على اعتبار أن الفنان بما فيها منتج النص هو الأسرع في التأثير والإسراع في قبول المتغيّرات وتلقّفها والتأثير فيها وتبنيها أيضا وإمساكها، لكي يعمل على تطويرها، خاصة إذا كانت هناك إمكانات كبيرة للإتيان بشيءٍ جديدٍ ما كان له أن يحصل قبل حصول المتغيرات.. بمعنى أن في العراق مثلا ما كان يمكن مواجهة التابو السياسي لولا المتغيّر الذي حصل عام 2003 والذي استثمره الفنان/الاديب في إنتاج نصوص مواجهة ليست للتابو السياسي بل لكل التابوات المعروفة، بما فيها التابو الديني وتابو الجنس، إذ حفل الكثير من النصوص السردية والشعرية وكذلك الفنون الأخرى بالمواجهة مع هذه التابوات، وهو ما يعني أن الفنّان يحتاج الى فسحةٍ من الحرية لكي يقوم بتثوير المخيال العام الذي يعيشه.
إن هذه المتغيرات أدّت في العالم العربي سواء في العراق ما بعد عام 2003 أو العالم العربي ما بعد الربيع العربي الذي أوجد هو الآخر فسحةً كبيرة من الحرية في تناول الكثير من الأعمال التي تفكّك الممنوع السابق، وإن اختلفت الممنوعات في هذا البلد عن ذاك.. فكان في مصر مثلا يختلف عما يكون في العراق أو الخليج أو سوريا أو المغرب العربي، فكلّ مجتمعٍ له مرتكزاته البيئية والفنية، حيث كان الفن في مصر متقدّما في تفكيك المجتمع ونقده وإن لم يصل الى مواجهة التابوات إلّا بما
لا يمسّ السلطات المختلفة.
ولكن فسحة الحرية التي وجد المبدع العربي نفسه في محتواها لم يجدها تكفي للتعبير عن كوامنه وقدرته على تفكيك الحيثيات الثابتة، لأنه وجد نفسه في مجالٍ قمعي آخر أو مجالٍ سلطوي جديد يمتلك طريقته الخاصة في مواجهة المبدع.. وهي سلطة أدّت بالضرورة الى أن يكون المبدع في دائرة الضيق والخوف من فلتان حالة التمتّع بالحرية والعودة الى الكبت والحرمان والخوف والسجن والاحجام والقمع بشكلٍ عام، أو الاندفاع بشكلٍ أو بآخر الى المسافات البعيدة ريثما يحصل الفعل السياسي الغاضب. لذا وأمام هذه الحالة، كان هناك صراع من طرفين.. الأول: إن المبدع العربي وجد نفسه أمام واقعٍ سياسي جديد لا بد أن يفضي الى نصّ جديد.. نصٌّ لا يزعج هذه السلطات الجديدة ولا يفكك محتواها بحسب ما تريده هذه السلطة الجديدة غير العسكرية بالضرورة أو التي لم تأتِ بانقلابات عسكرية كما كان الحال في القرن العشرين، بل من خلال ثورات شعبية. والثاني: أن السلطة الجديدة لا تريد الذهاب الى القمع المباشر والواضح الذي يمكن أن ينسب إليها، كونها تخشى على الكرسي والسلطة وما تتمتّع به من امتيازات فلا تذهب الى ما كانت تذهب إليه السلطات ما قبل التغيير، ومن ثم فإن المبدع ولا يريد أن يفلت منه خيط التعبير عن المواجهة مع السلطة التي اختلفت عن كل السلطات السابقة في القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة.
إن هذا النص يتميز بعلامات ظاهرية وداخلية.. ومن هذه العلامات.
1 - إنه نصّ ردة الفعل على فعل الخيبة التي وجد نفسه فيها.. فصار يحمل ادوات التراجع والسوداوية أكثر منه حاملا لأدوات النقل الحرفي للواقع.
2 - إنه نصّ سوداوي يحمل صورة القناع التي كان النص يحمله في زمن ما قبل التغيير ولكن بطريقة المباشرة الواعية وليس النص المراوغ.
3 - إنه نصّ جالد للذات المبدعة أكثر منه جالدا لمسبب الخيبة التي حصلت منا بعد التغيير.
4 - إنه نصّ يحمل خيبات المثقف الذي اراد ان يمارس سلطة الابداع في زمن اريد له ان يكون أكثر جمالا فكان اكثر قتامة.
5 - إنه نصّ يتناول الكثير من المعتقدات سواء منها الدينية باتجاهات مختلفة بائنة في الكثير من النصوص السردية والشعرية والمسرحية وحتى الفنية بطرق عدة بحسب اجتهاد المدون للنص أن اراده مباشرا او مقنعا ولكنه اكثر وضوحا في عملية التأويل.
6 - إنه نصّ يحمل الكثير من المدنّسات في مواجهة تحشيد ممّا يراد لها ان تكون مقدّسات، كردّة فعلٍ غاضبةٍ على الأحداث، وكأنه نصّ
غاضب على مسبّبات الخيبة.
7 - إنه نصّ يحمل عصبيته المضادة لما حصل، كونه يريد أو يحاول إقناع الآخر المتلقّي إنه في زمن كبتٍ أقوى، وفي زمن استغلال كلّ شيء حتى السماء.
8 - إنه نصّ يصل الى مستوياتٍ عليا من المبالغة في ردّة الفعل، سواء كانت جلدًا للذات،أو تلويحًا للمخالفة عمّا هو مضاد للطبيعة الحياتية.
9 - إنه نصّ يريد أن يُرجع أسباب الخيبة الى جهاتٍ عليا، تعتمد عليها السلطة الجديدة في عملية غسل الأفكار.
10 - إنه نصّ منشطرٌ على ذاته ويحمل الكثير من المتناقضات التي قد لا يجد فيها المتلقّي متعته القرائية الدائمة إلّا في لحظة التلقّي ذاته، باعتباره نصًّا يقول نيابةً عنه، ما يريد قوله للآخر، أو أنه يحمل الضدّ لمن هو مع السلطة، فيحصل على عملية تصادم.
11 - إنه نصّ انفعاليّ، لذا فإن أغلبيته لن تكون عملية إدامة صالحة لزمنٍ أطول، إلّا في عمليات التأشير النقدي للمرحلة، كما هي في نصوص سنوات الحصار التي تم فيها استخدام الأدوات اليومية للتعبير عن الجوع أكثر من نقد السلطة.
12 - إنه نصّ يبيّن تفكيك العلاقة ما بين المنتج للنص وبين الجهات التي تحيطه، سواء المجتمعية أو السلطوية لغياب ثوابت الثقة أساسا.
13 - إنه نصّ يريد ان يكون بديلًا عن الصمت الذي يعانيه المواطن/ المتلقّي.
14 - إنه نصّ يحمل جرأته ومن ثم التأشير على شجاعة المنتج/ المدون في مرحلةٍ زمنيةٍ هائجةٍ بالانفعالات العصبية المتعصبة.
15 - إنه نصّ يؤرّخ لاهتزازات المرحلة وفقدانها عوامل بناء المجتمع للانطلاق نحو أفاقٍ جديدةٍ في العلاقة بين المركز والهامش الذي تمثله السلطة الجديدة والقاعدة.
16 - إنه نصّ يريد أن يكون متحدّثًا نيابة عن الجمهور لذا يتّخذ طريق العصبية في أدبية الأحداث المختلفة، لأن المرحلة مبنيةٌ أساسا على فعل ورّد الفعل
المواجه.
إن هذا النص ووفق هذه العلامات التي يمكن لها أن تتناسل أكثر لتشعّب النص الغاضب بحسب المدوّن/ المنتج وثقافته ووعيه وقدرته على إنتاج الفكرة التي تحمل روحية ردّ الفعل للفعل المانح للغضب.. وهي علامات تسيّدت الإنتاج المختلف لهذه المرحلة التي انولدت بتأثير الفعل السياسي وما يتبعه من أفعالٍ أنتجها الواقع، الذي حصل ما بعد التغييرات التي حملت صدمتها مثلما حملت في بدايتها الدهشة الكبيرة.. لأن ما حصل هو الوقوف بوجه ما كان سائدًا من حكمٍ شمولي، ليأتي حكمٌ قاتم يستغل كلّ الأشياء، فكانت ردّة الفعل قاسية هي الأخرى.
أما العلامات الداخلية التي توضّح النصّ الغاضب والكامنة في انتاجه لتكون دالًّا لمدلول الصفة التي نريد تحميلها ليكون مصطلحا مقبلا.. وهي علامات إنتاجية داخلية نقدية أكثر منها علامات قرائية، لما يمتلكه النصّ من معايير الصورة الخارجية، ولكنها داخل الإطار الواحد للنص. ومن هذه العلامات الداخلية.. هي :
• إنه نصّ يعتمد على مراوغة اللغة في إنتاج المتن السردي.
• إنه نصّ يعتمد على المناوبة في الحدث والانتقالات المتذبذبة للزمن.
• إنه نصّ يفكّك المكان الى جزئيات بحسب الحادثة أو الواقعة الزمنية التي تقوم بها الشخصية.
• إنه نصّ يفكك الحادثة ويعيدها الى مرجعيات الفعل ليقابله في القوة ويعاكسه في الاتجاه.
• إنه نصّ يناور في الفعل الدرامي وتثوير الصراع وتوزيعها على شكل بؤرٍ موزّعة على المتن.
• إنه نصّ غادر البطل الواحد أو الابطال بتعدّد الاصوات، الى جعل التأويل والغاية لتكون هي البطل.
• إنه نصّ يستخدم الدوافع النفسية والفلسفية القائمة على مغايرة الأفكار المطروحة ليطرح وجهة نظر غاضبة على ما تم طرحه سابقا.
• إنه نصّ يفكّك الثوابت التدوينية، ليس من خلال تفتيت المركز وإعلاء شأن الهامش، بل من خلال جعل المادة الفكرية التي تحمل غائيتها المراد توصيلها الى المتلقّي هي الأساس في ثنائيات الشخصية والمكان، والزمان والمكان، والتاريخ والزمان، والفعل الدرامي والحوار .
• إنه نصّ يريد جعل الحوار هو حوار المنتج/ المدون وليس حوار الشخصيات، وإن بدت هي أصواتهم لكنها مشبّعة بغضب المنتج.
• إنه نصّ الصوت كردّة فعل على الأحداث أكثر منه امتلاك مفعول المناورة في تسلسل العملية التدوينية التي كانت عليها النصوص السابقة
للغضب.