بحلول بداية الخمسينيات، تلاشت النشوة التي شعر بها الأميركيون بعد انتصارهم في الحرب العالمية الثانية ليحل محلها مناخ سائد من الفزع. كان السوفييت قد فجّروا أول قنبلة ذرية، والمكارثية قد أطلت برأسها، وسرعان ما سيُطلب من تلاميذ المدارس الأميركية تطبيق قواعد الاحتماء عند سماع أول صوت لصفارة إنذار مدنية.
في هذا الجو من الخوف الجليّ، طلبت جيل من أبيها ويليام فوكنر التحدث إلى صف التخرج عام 1951 في مدرسة الجامعة الثانوية في أكسفورد، ميسيسيبي. وكان فوكنر في ذروة شهرته آنذاك.
قبل بضعة أشهر فقط، في نوفمبر من العام 1950، سافر فوكنر إلى السويد لتسلّم جائزة نوبل في الأدب. قال فوكنر في كلمته في ستوكهولم "إن أكثر الأشياء أساسية هو أن تكون خائفاً":
"مأساتنا اليوم هي خوف جسدي عام وعالمي كابدناه طويلاً لغاية الآن حتى أننا استطعنا تحمله. لم تعد هناك مشاكل مع الروح. هناك فقط سؤال: متى سيتمّ تفجيري؟".
توسع فوكنر في الموضوع خلال كلمته الموجهة إلى صف المدرسة الثانوية لابنته، والتي ألقيت يوم 28 مايو 1951 في كنيسة فولتون في حرم جامعة مسيسيبي.
كانت المناسبة نوعاً ما انتصاراً لمسقط رأس فوكنر الذي ترك المدرسة الثانوية من دون شهادة. يبدأ فوكنر بمقطع من كتاب هنري إستين Les Prémices من عام 1594 "لو أن الشباب يعرف، لو أن العمر يستطيع".
قبل سنوات عدة، قبل أن تولدوا، قال حكيم فرنسي: "لو أن الشباب يعرف، لو أن العمر يستطيع". نعلم جميعًا ما كان يقصده: فعندما تكون شابًا، تكون لديك القدرة على فعل أي شيء، لكنك لا تعرف ماذا تفعل.
ثم، عندما تكبر وتعلّمك التجربة والملاحظة الإجابات، تكون متعباً، خائفاً؛ لا تكترث، تريد أن تُترك وحدك طالما أنت آمن؛ لم تعد لديك القدرة أو الإرادة لكي تحزن على أي
ظلم غير ما يصيبك.
إذن أيها الشباب والشابات في هذه القاعة الليلة، وفي آلاف القاعات الأخرى مثل هذه القاعة على مدار الكرة الأرضية اليوم، لديكم القدرة على تغيير العالم، وتخليصه إلى الأبد من الحرب والظلم والمعاناة، شريطة أن تعرفوا كيف وماذا
تفعلون.
ووفقًا للفرنسي العجوز، نظرًا لأنه لا يمكنكم معرفة ما يجب فعله لأنكم يافعون، فإن أي شخص يقف هنا برأس مليء بالشعر الأبيض يمكنه أن يكون قادرًا على إخباركم.
ولكن ربما كان هذا الشخص ليس عجوزاً وحكيمًا كما يتظاهر شعره الأبيض بالادعاء. لأنه لا يستطيع أن يقدم لكم إجابة لبقة ولا نمطًا منمقاً أيضًا. لكنه يمكنه أن يخبركم بذلك، لأنه يعتقد ذلك. ما يهددنا اليوم هو الخوف، ليس القنبلة الذرية، ولا حتى الخوف منها، لأنه إذا سقطت القنبلة على أكسفورد الليلة، فكل ما يمكنها فعله هو قتلنا، وهذا ليس بشيء، لأنها بفعل ذلك، ستكون قد جرّدت نفسها من قوتها الوحيدة علينا: وهي الخوف منها، وأن نكون خائفين منها، وخطرنا ليس ذلك، خطرنا هو تلك القوى في العالم التي تحاول اليوم استخدام خوف الإنسان لسلب فردانيته، روحه، ومحاولة اختزاله إلى كتلة غافلة بواسطة الخوف والرشوة.. منحه طعاماً مجانياً لم يكسبه، ومالاً سهلاً وعديم القيمة لم يكدح من أجله؛ الاقتصادات والأيديولوجيات أو الأنظمة السياسية، الشيوعية أو الاشتراكية أو الديمقراطية، أيا كان ما يرغبون تسمية أنفسهم به، الطغاة والسياسيين، الأميركان أو الأوروبيين أو الآسيويين، مهما كانت تسميتهم لأنفسهم، ممن يختزلون الإنسان إلى كتلة مطيعة واحدة من أجل تعظيم شخصهم وسلطتهم، أو لأنهم هم أنفسهم في حيرة من أمرهم وخائفون، خائفون من، أو عاجزون عن الإيمان بقدرة الإنسان على الشجاعة والتحمل والتضحية.
هذا ما يجب أن نقاومه، إذا أردنا تغيير العالم من أجل سلام الإنسان وأمنه. ليس الرجال المختزلون في كتلة هم الذين يستطيعون وسوف يخلّصون الإنسان. إنه الإنسان نفسه، المخلوق على صورة الله لكي تكون لديه القدرة على تمييز الخطأ من الصواب، ومن ثم يكون قادرًا على إنقاذ نفسه لأنه يستحق الخلاص.. الإنسان الفرد، من الرجال والنساء، الذين سيرفضون دائمًا أن يتم خداعهم أو تخويفهم أو رشوتهم للاستسلام، ليس فقط من الحق ولكن من الواجب أيضًا الاختيار بين العدل والظلم، بين الشجاعة والجبن، بين التضحية والجشع، بين الجزع والثقة بالذات، الذين سيؤمنون دائمًا ليس فقط بحق الإنسان في التحرر من الظلم والجشع والخداع، ولكن بواجب ومسؤولية الإنسان أن يرى أن العدالة والحقيقة والشفقة والرحمة تتم.
لذلك لا تخافوا أبدًا. لا تخافوا أبدًا من رفع أصواتكم من أجل الصدق والحقيقة والرحمة ضد الظلم والكذب
والجشع.
إذا كنتم، ليس من في هذه القاعة الليلة فقط، بل في آلاف القاعات الأخرى التي تشابه هذه القاعة حول العالم، اليوم وغدًا والأسبوع المقبل، ستفعلون ذلك، ليس كصف أو فصول، ولكن كأفراد مستقلين، رجالاً ونساء، ستطهرون الأرض في جيل واحد، من كل نابليون وهتلر وقيصر وموسوليني وستالين وجميع الطغاة الآخرين الذين يطمحون بالسلطة والتعظيم، ومن السياسيين الصغار والخدم المؤقتين الذين هم أنفسهم مجرد مرتبكين أو جاهلين بالخوف، الذين استخدموا أو يستخدمون أو يأملون في استخدام خوف الإنسان والجشع من أجل استعباد الإنسان، سيختفون من وجهها".
بعد أن انتهى فوكنر من كلمته قدّم نسخة من خطابه إلى محرر الصحيفة المحلّية. في الحفلة التي تلت ذلك مباشرة قيل إنه قال "أتعلم؟ لم أكن أعرف أبداً كم هي لطيفة حفلات التخرج. هذا أول حفل أذهب إليه على الإطلاق".
عن Open Culture