بناء الدولة: أسئلة أسيرة وأجوبة حرة
آراء
2020/08/24
+A
-A
أ.د. عامر حسن فياض
ارتفع لدى العقلاء في العراق منسوب العناية برسم خرائط واطلاق دعوات وتبني طروحات وإثارة جدل واستنباط دروس تتصل ببناء وإعادة بناء الدولة الحديثة، والمعلوم أن سؤال الدولة عصي الاجابة ما لم يفكك الى اسئلة، كذلك جواب سؤال الدولة هو الآخر عسير الانجاز ما لم يفكك الى أجوبة ليعاد تركيبها تفاعليا، لا تنضيديا لتكون الحصيلة مجموعة اسئلة عن بناء الدولة تقابلها مجموعة اجوبة.
هذا النهج يحتاج الى رسالة غير مقيدة ورؤية حرة للانتقال بالعراق من خطر البقاء ككيان او كيانات سياسية الى دولة وطن ومواطنة، دولة قانون ومؤسسات، دولة نظام ديمقراطي خادم لشعب سيد ووطن مستقل. وتلك الرسالة وهذه الرؤية ينبغي أن يرسمها وينفذها ويطبقها (اسطوات) يسميهم العقلاء رجال الدولة، منهم من يجيد فهم واستيعاب القوانين الجدلية المتحكمة في بناء الدولة (اي دولة) عبر الازمنة والعصور. وكذلك فهم واستيعاب لمستلزمات بناء الدولة.. وفهم واستيعاب لعناصر بناء الدولة.. وفهم واستيعاب لمعوقات بناء الدولة.. وفهم واستيعاب لمستقبل هذا البناء.
عن القوانين المتحكمة ببناء دولة العراق الحديث فإنها قوانين جدلية سجالية تتلخص بثلاثة قوانين هي:
- قانون او جدلية التعارض بين الارادة الداخلية والارادة الخارجية (جدلية الداخل والخارج).. فأي كيان سياسي يراد الانتقال به الى دولة فإن الإرادتين الداخلية والخارجية تتحكم في عملية الانتقال. وتبقى هذه الجدلية لصيقة بصيرورة البناء منذ التأسيس الى ما بعده وهذا ما لمسناه في التعارض بين الارادتين الاجنبية البريطانية والوطنية العراقية منذ تشكيل الدولة العراقية العشرينية الحديثة وصولاً الى نهاية العهد الملكي، وكذلك مازلنا نتلمس جدلية التعارض بين الارادتين الاجنبية الاميركية والوطنية العراقية حتى يومنا هذا.
- قانون جدلية التجزئة والتوحيد، فأي كيان سياسي يراد انتقاله الى دولة فإن الحصيلة المتمثلة بالدولة، اما ان تكون حصيلة تجزئة اقليم او حصيلة توحيد أكثر من اقليم. وهذا ما تلمسناه كتجزئة في اثارة مشكلة اقتطاع الموصل لتركيا عند البدء ببناء الدولة العشرينية للعراق، كذلك نتلمسه في اجراءات ومطالبات انفصال وفدرلة زعامات تريد أن تتسلط على/ وتتحكم في مصير وثروات جمهور تنوعها القومي او المذهبي او المناطقي بذريعة (الاستقلال والتحرر) المصحوب بالعزف اللاديمقراطي المنفرد على حجج المظلومية (الشيعية) او المنبوذية (السنية) او المغبونية (الكوردية)!
- قانون جدلية تنازع الهويات السياسية الدولتية مع الهويات الفرعية غير السياسية. فأي كيان سياسي يراد انتقاله الى دولة فإن هوية الدولة في مجتمع سياسي متنوع الهويات الفرعية تصبح محل تنازع بين الهوية السياسية الوطنية الجامعة والهويات الفرعية غير السياسية (قومية حضارية – دينية مذهبية – اجتماعية قبيلة او عشائرية او أسرية – جغرافية مناطقية)، وهذا القانون الجدلي يبقى متحكماً في عملية البناء طالما أن القابضين على السلطة لايحسنون ادارة التنوع القائمة على قدرة النظام على الانتقال بالتنوع من تنوع غير منسجم الى تنوع منسجم على رأي مونتسيكو في كتابه (روح القوانين).
وبقدر تعلق الامر بالمستلزمات والمقومات المطلوبة لبناء الدولة الحديثة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فإنها لا تستقيم من دون ان يكون للدولة المنشود بناؤها حامل سياسي يتمثل بعقد اجتماعي موصوف يعتمد دستورا يتمتع بالعلوية على كل توافق وتوافقية وتحترم أحكامه ومبادئه (مبدأ التمثيل بالانتخابات – مبدأ التعددية بشقيها التعددية السياسية الحزبية وتعددية الرأي – مبدأ استقلال القضاء – احترام حقوق الانسان – مبدأ التداول السلمي للسلطة).
كذلك لايستقيم بناء الدولة المنشودة من دون ان يكون حاملها الاجتماعي فئات وسطى مستنيرة وميسورة .. ولا تستقيم عملية البناء ايضاً من دون ان يكون حاملها الاقتصادي اقتصادا مستقرا ومتوازنا، بمعنى أنه اقتصاد يلبي الاحتياجات الاساسية التي تحافظ على كرامة المواطن وبمعنى أنه اقتصاد قادر باصرار على مغادرة حالة العقم الانتاجي والخصوبة الاستهلاكية اللذين يعاني منهما اقتصاد العراق. وصولاً لاقتصاد متوازن نسبياً بين الانتاج والاستهلاك.
وكذلك ايضا لاتستقيم عملية بناء الدولة الحديثة في عالم اليوم من دون ان يكون حاملها الثقافي قائما على:
- سيادة النزعة الفردية (المواطنة) على النزعة الجماعية التقليدية (المكوناتية) في الفكر والفعل.
- سيادة النزعة العقلانية على النزعات اللاعقلانية فكراً وسلوكاً.
- سيادة النزعة المدنية على النزعات اللا مدنية في الحياة السياسية فكراً وسلوكاً.
يصاحب كل ذلك فإن البناة (رجال الدولة) لهذه الدولة المنشودة سيعملون من خلال وبصحبة عناصر ثلاثة لعملية البناء هم: فرد مواطن (لا من الاتباع ولا الرعايا ولا الزبانية)، وجماعة او جماعات عصرية لاتقليدية (عشائرية – مذهبية جهوية ضيقة)، ومؤسسات سلطة تتمتع بالشرعية القائمة على المقبولية والرضا عبر الانتخابات للبدء بعملية البناء من جهة وعلى الانجازية للاستمرار بالشرعية في طريق عملية البناء. مع الحذر – من أطروحات شيطنة الدولة الوطنية لتبرير تدميرها والعودة بها الى مرحلة ما قبل الدولتية، ومع الانتباه ان شعب العراق المتحد لايستحق ماضيه ولا يستحق حاضره بل يستحق مستقبلا أفضل منهما. بأخرى وبطريقةٍ أو أخرى باستغلال المنطلق العاطفي مرّة، أو استغلال المنطق العقلاني الذي يتخذ من الذكرى ذاكرةً وهدفا.. وفي كلّ عام نبحث عن أنفسنا في خضم الضياع الذي نعيشه، فنجد في مثل هذه المناسبات الدينية لحظة تنويرٍ تارةً، ولحظة احتجاجٍ تارةً أخرى، ما دامت الذكرى عِبرةً وعَبرةً في امتزاج الحالة الوجدانية مع العقلية لإنتاج واقعٍ لا يسير بحذافير ما يراد، بقدر ما نريد أن نسير نحن إليه، لأننا نبحث عن أنفسنا وسط ضوء المناسبة التي تعدّ واحدةً من أكبر المناسبات التي تشهد احتفالات وممارسات طقوس ربما على مستوى
العالم.
في كلّ عامٍ حين تحين ذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) نشرع الى عمليةٍ مزدوجةٍ بين البحث عن الذات المفقودة، والبحث عن خيارات الالتصاق بالإيمان، وبين البحث عن فرصة التماهي مع الثورة بهدف مواصلة عملية التغيير التي يحتاجها الواقع الراهن، وبين دلالة الرفض التي أطلقها الإمام الحسين (ع) في وجه السلطة حين رفض المبايعة على أساس ألا مسايرة مع الفاسدين، وبين أن نجد تلك النقطة الغيبية التي تحوّلت الى مسارٍ وهميٍّ ضبابيٍّ لا يملك الولوج الى حيثياته ولا يمكن الوثوق بالوصول إلى التفاصيل، مثلما لا يمكن الركون الى أن ما هو حاصلٌ الآن قادرٌ على الإتيان بتفاصيل الماضي، فنبقى في محاولات البحث عن النقطة المهمة التي سلّطت عليها الثورة الحسينية الضوء، ألا وهي مقاومة الظلم.. ولكن رغم هذا ظلّت هذه المقاومة محصورةً في عملية جلد الذات التي يجد الكثير من الناس أنها ضالّتهم في التأكيد على الولاء، وترسيخاً للإيمان، وتوضيحاً للمأساة، ورسماً للمعاناة، وطريقاً للمواصلة، وإعلانا للتحدّي، لذا فإنها حملت شعاراتٍ مختلفةً وهتافاتٍ متنقلةً ما بين الماضي الذي أتى به الأوّلون، والتي كانت شعارات أو أدعيةٌ تذكيريةٌ متساوقةٌ مع عظم الفاجعة وتهويل اللغة.. وبين الشعارات الحاضرة التي يردّدها الناس الآن على أساس أن الارتباط مستمرٌّ في استثمار الثورة الحسينية التي انطلقت شرارتها من لحظة رفض الإمام الحسين (ع) للمبايعة، في تلك الجملة المشهورة التي حملت (لاءها) الكبيرة بعنوانٍ سماويٍّ، وتأكيد إنساني وتربيةٌ أسريةٌ ومسيرة إيمانيةٌ في بيت النبوة، حتى لكأن المشاركة في الاحتفالات في عنوانها الأسمى، ان تلك الـ (لا) كانت أثراً لمواصلة الاحتجاج، وإن كان أحد أوجهه هو جلد الذات، لأنها تعطي مدلولاً على أن الثورة في احتفالاتها حزناً وبكاءً، رغم أن الكثير يحملون بعض الممارسات على أنها مغالاةٌ أو أنها حملت معها ما هو خارج سياق الثورة، وما هو مزاحٌ عن الهدف الأسمى للإيمان، فدخلت عليها تلك الممارسات الولائية، ما لا يمكن أن يتقبّلها العقل، وما رفضتها المراجع الدينية، لأننا ندرك أن الحقيقة دائماً يحوم حولها المنافقون من أجل تشويهها، ولا يمكن تبرئة أعداء الثورة ذاتها من صهيونية وكراهية دينية من محاولة غرس هذه المخالفات على أنها الحقيقة، والتي أسهم فيها المخيال الشعبي من جهةٍ وما تلقفه بعض الخطباء من جهةٍ أخرى في ترديد المخالفات على أنها حقائق مسلمٌ بها، وهو الأمر الذي دعا فيه المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني الى اصدار تعليمات أو فقرات داخل بيانٍ مهمٍّ جدا وهو ضرورة الحفاظ على الثورة الحسينية من تلك الدواخل التي تريد تشويه الحقيقة وتنزع ثوب التحدي وتجعله ثوباً عادياً أو مهلهلاً، ومن ثم تكون الثورة مزاحةً عن هدفها في مقاومة السلطة الدكتاتورية أو الفاسدة وجعلها مجرّد مناسباتٍ للذكرى.
إن ممارسة الشعائر تحتاج الى فعلٍ عقليٍّ لكي يتحوّل الشعار الى ممارسةٍ واقعيةٍ تخرج من إطارها الاحتفائي الى نطاقها العملي في عدم القبول بالظلم وعدم الركون الى الفساد، وإن يتحوّل الصمت الى لغة تغيير في الواقع، ليس بالضرورة أن يكون ضدّ السلطة فقط بل تثويراً وتغييراً وتطويراً للواقع المعاش، سواء في مجالاته العلمية أو الثقافية أو الانسانية، لأن الهدف من الثورة لم يكن فقط مواجهة الظلم، بل ما خلّفه الظلم من واقعٍ مريرٍ على الانسان، ولذا فإن ثورة الإمام الحسين (ع) إن أردنا أن تكون ملهمةً للتغيير، علينا أن نحوّل الشعارات من ترديدٍ وقتيّ الى منهاج عملٍ شريطة أن نتخلّص من تلك الدخيلة عليها من مغالاةٍ أو حتى خزعبلات، كما يسمّيها البعض، لأن الحسين (ع) أسمى من أن ينطلق بثورته الكبيرة التي كتب لها الخلود من أجل أن تبقى أسيرة المخيال الشعبي، الذي صدّق ما قاله الأعداء.. ولذا فقد حان الوقت لكي نقوم بعملية مراجعةٍ حقيقيةٍ للأسس الصحيحة للثورة، لنأخذ بها وما عداها نشير إلى أنها خارج نطاق الاستلهام والإيمان.