بيوتنا الشرقيَّة .. مجموعة مخاوف

ثقافة 2020/08/24
...

ياسين النصير
يتحدث إدورد هال فيقول: «بالرَّغم من مرور أكثر من ألفي سنة من الاتصال، ما زال الغربيون والعرب لا يفهمون بعضهم البعض، ويظهر البحث البروكسيمي( علم المكان) بعض الاستبصارات بصدد هذه الصعوبة. يصطدم الأميركيون في الشرق الأوسط مباشرة بإحساسين متضاربين، ففي الأماكن العامة ينضغطون وينغمرون بالروائح والاكتظاظ ومستويات الضجيج العالية؛ وفي البيوت العربية يكونون عرضة للتجول في أماكن كبيرة بالنسبة لهم ويشعرون أنهم مكشوفون وغالبًا غير ملائمين إلى حد ما بسبب الحيِّز الكبير (إن البيوت والشقق العربية السكنية للطبقتين الوسطى والعليا والتي يسكنها الأميركيون المقيمون في الخارج بشكل عام، هي أكبر بكثير من المساكن التي يقيم فيها هؤلاء الأميركيون عادة). إنّ المنبّه الحسّي العالي الذي يعاني منه في الأماكن العامة وعدم الشعور بالأمن الأساسي الذي يأتي من الإقامة في مسكن كبير جدًا كلاهما يزودان الأميركيين بمقدمة الى العالم الحسيّ عند العرب»  ثمة قيود تفرضها الأمكنة المغايرة لطبيعة ساكنيها، أي الأمكنة المنحرفة، وقيود أخرى تصبح عادية، ففي الأمكنة المنحرفة عن مواضعها، يجري تغريب الإنسان وجعله يقظًا من دون أن يكون هناك سبب مباشر للخوف، بينما الأمكنة المنتظمة والموظفة لقاعدة بنيَّة العلاقة بين الإنسان ومحيطه، تكون عوامل مساعدة على الابتكار والتجديد والتفكير، وكلما كانت الأمكنة واسعة وبفضاءات مختلطة، أو كما تسمى الأمكنة الواسعة، كعلاقة الخيمة بالصحراء، السفينة بالبحر، الكهف بالجبال، بيت القصب بالأهوار،  يقلّ فيها التضامن بين الإنسان والسكن، وتزداد المخاوف فيها لقلّة السيطرة على أبعادها المجهولة، ولغموضها باعتبارها مأوى لحيوانات أخرى، وتنوّع مسالكها للتعرية المستمرة فيها، فالمسافات لا تحسب فيها»، كما يقول باسكال، علينا أن ننقل الواقع الذي نعيشه إلى “أرض غريبة عنه”،  وبالتالي ثمّة طرق عديدة توصلك لنقطة معينة في هذه اللا أمكنة الشاسعة، لأنَّها لا تعوضه عن الألفة العادية التي يشعر بها في مسكنه، فالمهمة الأساسية هي الضبط الحياتي لكينونة العلاقة بين الإنسان وبيته، وهذا الضبط لا يتأتى، إلا من تحديد المسافات بين أجزائه، لتصبح جزءًا من التقاليد في البناء والعيش.
    وتحدّثنا الحداثة عن أنّ تنظيم المكان هو جزء من فهمه كعنّصرِ بناءٍ اجتماعيّ، تجعله الحداثة يتلاءم “وتقنيات الضبط الاجتماعيّ والمراقبة والقيم للذات ولعالم الرغبة”، كما يشير فوكو إلى رمزية المواقع الحاوية على السلطة، ويشير فن الرواية الحديثة أن “لا شيء في الرواية يتميّز باستقلاليته عن البنية المكانية، كما أنّ كلّ المواد الداخلة في تركيب السرد تصبح تعبيرًا عن كيفية تنظيم الفضاء الروائي”، علينا ألا نركن للأمكنة العشوائية، والمفترضة، أو المعطاة من الطبيعة عندما نتعامل فنيًا معها، فالأمكنة ليست مجرد فضاءات للاشتغال، بل هي تكوينات لغوية تدخل بيت الرواية وهي تحمل حضورها، لا أحد منا يلقّن المكانَ لغتَهُ، ولكن على الروائي أن يكتشف لغة المكان ومن ثم يعمّقها بلغته الفنيَّة، كلّ الروايات التي تعاملت مع أمكنة أثرية تعثرت عندما لم تجد الانسجام اللغوي بين ما يخصّ المكان وما يتطلّبه فنّ الرواية. نقرأ في (زوربا) قيمة المصاهرة بين الفنيَّة واللغة المكانيّة عندما تتحوّل كريت إلى جزيرة مخلوقة للفنّ الروائي، لذلك جاء الانسجام بين اللغتين؛ المكانية والروائية بطاقةٍ شعريّة جعلت الأشياء تشترك في الرقص مع الشّخصيات، هذا الإحساس الشعريّ ينقل الأمكنة من صلابتها إلى شعريّتها اللغوية، وكأن لا حجر ولا جبلَ يعيق انسيابية المسّرود، كلّ الصلابة تذوب في الشّعريّة. فالإحساس بالمسافات- وهو ما سنتوسّع في شرحه في فصول “كتابنا” المسافة جدلية القرب والبعد” يعيدُ بناء أنفسنا في العالم، وعندما نفكّر أنّ كلّ الجدالات الفلسفيّة قائمة على فهم دور المسافة في توصيل ما نريد، نعرف حدود الشخصية وحدود الحدث وحدود الوصف، وسنبدأ بما تعنيه المسافة في الحيِّز، وهي أول الأمكنة التي على الرواية أن تستوطنها عندما تريد تحديد هوية الشخصية والحدث واللغة، الحيز هو المكان الذي تكون فيه الأنا منتمية إليه.