القصديَّة في الدستور العراقي لعام 2005

آراء 2020/08/25
...

محمد الشحتور
يربط علم لغة النص بين اللغة والسياق (الثقافي، الاجتماعي, السياسي.. إلخ) الذي ولد فيه النص فيدرس ما بداخله وخارجه لذلك فهو العلم الأكثر شمولا في دراسة النصوص.وكان روبرت دي بوجراند (ت 2008) أهم منظري هذا العلم قد اقترح في مصنفه (النص والخطاب والإجراء) سبعة معايير لهذا العلم لتحقيق ما أسماه (الكفاءة النصية) والتي تعني أن يُصاغ النص محتويا على أكبر كمية من المعلومات بإنفاق أقل قدر ممكن من الوسائل. 
والقصدية أحد هذه المعايير وهي موقف منشئ النصِّ من صورة ما من صور اللغة، قصد بها أن تكون نصًّا، يتمتع بالسَّبك والالتحام، وأنَّ مثل هذا النص وسيلة من وسائل متابعة خطة معينة للوصول لغاية بعينها، ويظلُّ القصد قائمًا من الناحية العملية، حتى مع غياب المعايير الكاملة للسبك والالتحام، ومع عدم تنفيذ الخطة للهدف.
والقصد هو من يجعل منتج النص يعتني باختيار الألفاظ وتنظيمها لأجل توضيح معانيها وغايتها وقصد النص، وليس ضروريًّا أن يكون النص على درجة عالية من السبك والحبك؛ لأنَّ مدى التغاضي عنهما متغيِّر مادام القصد قائمًا؛ فالأولوية للقصد، ثُمَّ السياق الذي يُعدُّ ركيزة إنتاج النصوص.
 
قصديَّة النَّصِّ الدُّستوريِّ:
وبحسب لغة القانون فالقصد في النص القانوني هو قصد المشرِّع إلى توافق المجتمع على نصوص وإقرارها لتحقيق نظام عام يلتزم به الجميع، وما أسِّست المحكمة الاتحادية العليا إلَّا لتفسير نصوص الدستور على وفق مقاصد وغايات المشرِّع.
وليس من المبالغة القول: إنَّ معيار القصديَّة هو الأشدُّ حضورا في الدستور تحقيقًا لمقاصد كبرى كالعدالة رمى إليها المشرِّع؛ فهذا المعيار بارز حتى قبل زمن كتابة الدستور الذي ما هو إلا ثمرة تلك المقاصد، فقد كان العمل السياسي منذ ستينات القرن السابق يستهدف تغيير نظام الحكم، وكتابة دستور أو قانون جديد يعبِّر فيه عن تطلُّعاته وفلسفته في الحكم وغاياته
النهائية. 
فإرهاصات السياق السياسي والأمني وتفاعله مع السياق الاجتماعي والثقافي قادت إلى توجه (قصد) خارجي وداخلي لتغيير نظام الحكم في العراق، واختار العامل الدولي عن قصد مجموعات سياسية معارضة واسعة، مثَّلت العامل الداخلي وكان الجميع يقصد قيمًا مختلفة لبناء الدولة، والدستور هو البحيرة التي التقت بها هذه المقاصد جميعها، فحققت فاعليته.
 
أقسام قصديَّة النَّصِّ الدُّستوريِّ:
1 - مقاصد مباشرة: 
وهي التي صرح بها منتج النص الدستوري (المشرِّع)؛ فحقَّقت فاعلية في تأثيرها في المشرَّع لهم، ويمثلها أمران: 
أ - العنوان: فالمُرسِل (المشرِّع) وضع قواعد في (رسالة) ذات عنوان، هو (دستور جمهورية العراق)، وهو كاف ليشكِّل وحدة اتِّصالية وتفاعلًا مع المُرسَل إليهم وبخاصَّة لدى المثقف، حيث ينصرف الذهن إلى أنَّ المقصود بالعنوان هو تلك القواعد المعروفة من القوانين العليا الضابطة والمنظِّمة لعمل الدولة والمجتمع.
ب- الدِّيباجة: وهي مقدمة أوجزت مقاصد الدستور والغاية من سَنِّه، فقد جاءت صريحة بلسان جماعة المتكلمين: "لنصنعَ عراقنا الجديد.. من دون نعرة طائفية، ولا نزعة عنصرية، ولا عقدة مناطقية.. لبناء دولة القانون.. لتعزيز الوحدة الوطنية، وانتهاج سبل التداول السلمي للسلطة، والتوزيع العادل للثروة.. وتكافؤ الفرص للجميع.. من خلال نظام جمهوري اتحادي ديمقراطي تعددي.. احترام قواعد القانون، وتحقيق العدل والمساواة، ونبذ سياسة العدوان، والاهتمام بالمرأة وحقوقها، والشيخ وهمومه، والطفل وشؤونه، وإشاعة ثقافة التنوع، ونزع فتيل الإرهاب.. والاتحاد".
فهذه مجمل مقاصد المشرِّع التي وجدت طريقها من الديباجة إلى المواد الدستورية؛ فجاء حافلًا
بها.
 
2 - مقاصد غير مباشرة: 
أي المقاصد الضمنيَّة التي لا يصرِّح بها النص، ولا يكشف عنها المنتج صراحة، لكنَّها متضمَّنة في معنى النص، وقد تُسبِّب هذه المقاصد المضمرة غموضا في بعض النصوص المهمَّة كالقانون، فقد تكون هناك غايات سياسية وقومية ودينية وحتى طائفية، تختبئ بين السطور، وبالفعل أثارت هذه النصوص جدلًا واسعًا بسبب الغموض الذي اكتنفها؛ فقادت لتفسيرات
ضبابية.
فقيل: إن لفظة (اتحادي) التي مرت معنا في الديباجة قصد بها الفدرالية بوصفها اتحادًا طوعيًّا، وأنَّ حظر (التكفير) قصد به جماعات سُنيَّة متطرفة، ترى الشيعة (مرتدين)؛ وعُدَّ بدء الديباجة بالبسملة قصدا لتهميش غير المسلمين، وأنَّ ذكر (الأئمة الأطهار) إعلاء لمقام أئمة الشيعة على أئمة السنة.
وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المقاصد غير المباشرة المبثوثة في مواد الدستور وديباجته، أثارت الغموض في نص يجب أن يكون في أعلى درجات الوضوح والمباشرة؛ كي يتواءم ومعايير لغة النص ولغة القانون، فيحقق الفاعلية في إيصال قصد المنتج للمتلقي ليؤثِّر فيه، ويكوِّن –حينها- وحدة
 اتصال.