إشكاليَّة السرد والتاريخ والذاكرة الجمعيَّة

ثقافة 2020/08/26
...

يوسف محسن  
 
 
 
  تشتغل مجلة (تبين) (للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية) التي تصدر دوريا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على الجوانب التطبيقية للعلوم الاجتماعية، والظواهر والقضايا الاشكالية. في العدد الثالث والثلاثين - صيف 2020 من المجلة كرس ملف خاص عن الذاكرة ودراساتها تحت عنوان (من الذاكرة إلى دراسات الذاكرة مقاربات عربية)، بوصفها مفهوما وممارسة، وتعد الذاكرة ظاهرة مجتمعية عامة ومشتركة متعددة المشارب، عدا عن أنها عالمية وعابرة للقوميات أيضا، وفقا لما ذكره الباحث المغربي زهير سوكاح في تقديمه للملف، يقصد سوكاح بتلك الثيمات كل من (الذاكرة الجمعية)، و(أماكن الذاكرة)، و(الذاكرة الحضارية)، عدا عن (الذاكرة التواصلية)، و(الذاكرة الاجتماعية)، و(ثقافة التذكر)، و(النسيان الاجتماعي)، و(سياسة التذكر) فضلا عن جملة من المفاهيم المركزية التي تعكس بحسب سوكاح الحركية الكبيرة المرتبطة بمفهوم الذاكرة، وهي حركة لا تجميعية وتقريبية فحسب، وإنما تمددية وجاذبة. ويؤكد سوكاح في مقدمته للعدد أن أهمية الذاكرة بالنسبة إلى العرب لا تقل عن مثيلتها في الغرب. 
خاصةً في ضوء جملة أحداث تاريخية، بدءا بالاستعمار الغربي وما أفرزه من مجازر وتهجير بحقّ أهلها والانقلابات العسكرية والتحولات المجتمعية التي نتجت عنها، وتأثير المد الاشتراكي وصعود التيارات الإسلامية والانبعاث الجديد للطائفية مقابل تنامي المتخيلات السوسيوثقافيةـ وصولا إلى الثورات العربية وما تلاها من تحولات ومتغيرات شغلت زاوية واسعة من محتويات الذاكرة الجمعية للمنطقة. 
ويشير سوكاح، إلى أنه (مع حلول الألفية الجديدة تحولت الذاكرة، مفهوماً وممارسة، إلى ظاهرة مجتمعية عامة ومشتركة)، موضحا أنه (قد رافق هذا الرجوع العالمي إلى الذاكرة، وما أفرزه من تمظهرات سوسيوثقافية متنوعة إلى درجة التعقد، اهتمام علمي منقطع النظير، ضمن المشهد البحثي في الغرب، وذلك على امتداد العقود الأخيرة، تُؤثثه مجموعة من المفاهيم العلمية الآتية من تخصصات متنوعة، إلا أنها تشترك في كونها تتعامل كلها مع (ثيمة) الذاكرة، التي صارت تجمع وتقرب أكثر من غيرها من الثيمات). بحلول الألفية الثالثة تحولت الذاكرة إلى ظاهرة مجتمعية.
 
الذاكرة من منظور مؤرخ
 العدد تضمن خمس دراسات، هي: (الذاكرة من منظور مؤرخ) لـ وجيه كوثراني، انطلقت دراسة المؤرخ اللبناني من فرضية أساسية تشدد على أنه بعد مراجعات عبد الرحمن بن خلدون للكتابة التاريخية العربية والتمييز النقدي، لم يجر أي تأسيس لنقد إبستيمولوجي جدي يسائل المحتوى الأيديولوجي والطبيعة المنهجية للسرديات الكبرى التي جاءت نتيجة الذاكرة التاريخية للمنطقة العربية الإسلامية. ويرى كوثراني في دراسته هذه أن الخلط بين الذاكرة والتاريخ من شأنه أن يثير إشكالات كبرى بشأن صحة الخبر أو يقينيته أو صدقيته، ويرى ان التمييز النقدي، الذي دأب عليه الفلاسفة المسلمون الأقدمون بين المعرفة العقلية والمعرفة الشرعية، ويبين أنه رغم الأشواط الفكرية غير الهينة، التي عرفها البحث التاريخي العربي خلال العقود الخمسة الأخيرة بالاستفادة من الزخم الفكري الغربي، فإن تجديده الشامل لا يزال في حاجة إلى إطلاق ورشة بحثٍ كبرى تعالج الممارسة التاريخية من جهة كونها نتاج ممارسة ذاكرية لم تدرس طبائعها على الوجه المأمول.
 
ذاكرة المكان.. أسماء المدن
 في مقال (ذاكرة المكان: أسماء المدن والقرى الفلسطينية ما بين الاستمرارية التاريخية والطمس الصهيوني) لمحمد مرقطن، انطلق من مجموعة تساؤلات مثل: (ما أماكن الذاكرة الفلسطينية؟ وما حفظت لنا؟ وما الأماكن التي تم إيداع التاريخ الفلسطيني فيها؟ وكيف تكونت هذه الأماكن؟ وما علاقة الإنسان بالأرض في فلسطين عبر التاريخ؟. ويفتتح الدارسة باستعراض بعض المقدمات النظرية والمنهجية لدراسة أسماء الأماكن الفلسطينية بالاعتماد على الذاكرة الجمعية الفلسطينية، التي تتكون بدورها من الذاكرة الثقافية والذاكرة التواصلية الفلسطينية، ثم يتحول إلى مناقشة مسألة العلاقة بين الذاكرة والتاريخ، مبينا مسألة هوية المكان وأهمية الدراسات اللغوية لأسماء الأماكن الفلسطينية، ويعالج كذلك مسألة التحول المكاني للشعب الفلسطيني بعد النكبة وسياسة الطمس لأسماء الأماكن الفلسطينية.
 
خطاب النسيان
اما دراسة الباحث المغربي رشيد بوطيب فقد كانت تحت عنوان (تراثنا هو الكون: شذرات من خطاب في النسيان)، يناقش فيها مسألة العلاقة التي بناها الفكر العربي المعاصر بالتراث، مفككا أبعادها الأيديولوجية ومسلطا الضوء على محدوديتها، معرجا على مختلف القراءات للتراث في السياق العربي المعاصر، التي تنتهي في مجملها، وعلى اختلاف مشاربها ومناهجها، إلى إسقاط صراعات الحاضر على الماضي، وصراعات الماضي على الحاضر، وما يمثله ذلك من عقبة أمام الالتحاق بزمن العالم، والانفتاح على الإنجازات الكبرى
 للحداثة.
 
من التاريخ إلى الرواية
الباحث المغربي إدريس الخضراوي قدم في دراسته (من التاريخ إلى الرواية: الذاكرة الجمعية مصدرا للسرد) دراسة العلاقة بين السرد والتاريخ والذاكرة الجمعية. مستكشفاً التحولات التي طرأت على مفهومي التاريخ والأدب منذ النصف الثاني من القرن الماضي، على نحوٍ أدى إلى تجاوز المنظورات السابقة التي كانت مؤسسة على القطيعة بين هذين المجالين، والأهمية التي يحظى بها الأدب، بشكل عام، والرواية بصورة خاصة، في عملية تمثيل الذاكرة. كما درس إسهام الرواية العربية المعاصرة في التمثيل السردي للذاكرة الجمعية، من خلال رواية ابنة بونابارت المصرية التي تذكر أحداثها وشخصياتها التاريخية والمتخيلة بحقبة
مؤلمة