الشرق.. الملعب الأرحب للصراعات

آراء 2020/08/26
...

امين قمورية
 
في شرق المتوسط، اساطيل حربية تحمل اعلاماً تركية وروسية واميركية وبريطانية وفرنسية تجوب البحر ذهاباً واياباً، في الخليج حركة البوارج والمدمرات وحاملات الطائرات لا تهدأ، المشهد عينه يتكرر في بحر العرب والبحر الاحمر، والمضايق في هرمز وباب المندب وقناة السويس التي يمر  خلالها حيز وفير من موارد التجارة العالمية، تحت الرقابة الدولية المطلقة، والسباق على انشاء القواعد العسكرية الاجنبية على اشدّه من العديد في قطر الى سواكن في السودان، والقائمة تطول، فهل الشرق الاوسط على عتبة فصل جديد من الصراع الدولي. 
في زمن القطبية الثنائية والصراع بين الجبارين كان الشرق الاوسط الضحية الابرز للتجاذبات العالمية وضاع جزء آخر من فلسطين والارض العربية، وبعد انتفاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي، صارت الولايات المتحدة الخصم والحكم، لكنها كانت خصماً شرساً وحكماً منحازاً، وكان نصيبنا من فواتيرها باهظ الثمن، فالغزو الاميركي لافغانستان، كانت ارتداداته عربية، فهو لم يستأصل الارهاب، بل غذّاه بكل المقويات وأجج كل أمراض التعصب والجاهلية وأخرج مارد التطرف والتكفير من قمقمه في مغاور الجبال الى ساحات مدائننا الكبرى من بغداد والموصل الى الرقة وحلب، وما بدأ في افغانستان استكمل بغزو العراق، وهاهو يتواصل في سوريا وفي ارجاء الاقليم حيث عم الخراب والدمار والانحدار المدوي، وحيث تغير وجه الصراع من عربي اسرائيلي الى صراع مزدوج عربي فارسي وعربي تركي وصار الاول منسياً وصار الثاني هو الاساس والفعال، والاخطر من ذلك انه اطلق الصراع المذهبي على غاربه وجزّأ المجزأ،  كانت لدينا اشكال دول ومؤسسات وجيوش صارت لدينا قبائل وافخاذ وطوائف وامراء طوائف وشيوخ طرق وميليشيات و»حشاشون» جدد.
الآن أيضاً، في زمن السعي الى عالم متعدد القطب خارج الارادة الاميركية، نحن أيضاً الضحية، في الزمن الجديد بلغ الطمع الدولي في الاقليم حده الاقصى، في شمال سوريا وحدها حرب عالمية تخوضها هيئة أمم متناحرة، وفي لعبة انقلاب الادوار برزت ثلاث دول قوية في الاقليم هي تركيا وايران واسرائيل، الاولى تحضر بجيشها، والثانية بحلفائها وحراس ثورتها، والثالثة تحصد المكاسب الكبيرة بلا أثمان وكان اخرها الاتفاق مع ابوظبي، والجوائز الاخرى على الطريق، أما العرب فكم محتقر لا حول ولا قوة لهم.
المبارزة الدولية التي تلوح في الافق أشد خطورة من الحرب الباردة، الخلافات الروسية الاميركية والاميركية الايرانية والاسرائيلية الايرانية والعربية التركية في سوريا وعليها والتي تتمدد وتتسع الى مناطق جديدة من شمال العراق الى لبنان حاليا، والصراع الخفي الاميركي والصيني على المنطقة نفسها، أكبر من مجرد رسم خرائط محلية جديدة وتصفية حسابات مناطقية، انه يبشر بزمن مختلف ومغاير عما سبق، في الحرب الباردة لم يتواجه السوفييتي والاميركي ولا مرة مباشرة في كل بؤر الصراع، كانت المواجهة بالواسطة وعبر الوكلاء وتدار من بعيد في شبه الجزيرة الكورية وفي فيتنام وكوبا والشرق الاوسط والقرن الافريقي، أما اليوم فايدي الاطراف كلها على الزناد خلف خطوط التماس المتلاصقة، وأي طلقة نار تشعل حرباً فوق النار المشتعلة أصلاً.  
وبدلا من العمل على سحب فتائل الاشتعال، تتضافر العوامل لتفجيرها، وجاء اكتشاف النفط والغاز في شرق المتوسط ليحول المنطقة  الى مادة ملتهبة، تزيد من أسباب النزاعات والخلافات على المصالح، من الصراع المائي والنفطي قديم العهد بين لبنان وإسرائيل إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا، وكل من اليونان وجمهورية قبرص من الجانب الآخر، إذ تجاهلت تركيا، في طريقها للتوسع السياسي للوصول إلى الشواطئ الليبية، إنّ شواطئ جزيرة كريت هي أراضٍ يونانية، وصولاً إلى الصراع الثالث، حديث العهد، القائم بين تركيا ومصر، الدولتين الكبريين في الاقليم والمشبعتين بالكثافة الديموغرافية والطموح الاقتصادي اللذين يحتاجان الى استهلاك عال من الطاقة، لكن الصراع على غاز شرق المتوسط يبقى حصرياً صراعا أميركيا- روسيا. و التحرك الجاد في هذا الملف لا يكون إلا من خلال تفاعلات مباشرة بين الطرفين الرئيسين فقط، الأطراف الثانوية هامشية لكن اجنداتها الخاصة تعقــِّـد القضية، الروس يدركون أن ثمة لعبة «كش ملك» تمارسها أميركا، وان واشنطن تلعب آخر ورقة في ما تبقى من صراع أميركي- روسي أو اميركي – سوفياتي، طامحة الى توجيه ضربة قاضية لموسكو، وهذا لا يتم إلا في قطاع النفط والغاز، ذلك ان 60 بالمئة من دخل روسيا يأتي من عائدات الصادرات الهيدروكاربونية،  وبالتالي فان السبيل الوحيد للحصول على السم القاتل إيجاد غاز يقتل سوق الغاز الروسي في أوروبا، والمكانان الأساسيان المرشحان كانا هما الغاز الجزائري والليبي ولو بدرجة أقل، وغاز شرق المتوسط،  وكشف الانفجار الكارثي لمرفأ بيروت في الرابع من آب بعدا ستراتيجيا من ابعاد الصراع لا تقتصر ارتداداته على المشهد اللبناني، بل بلغت  العواصم الكبرى، وصولا الى بكين مرتكز طريق الحرير الساعي الى مشهد اقتصادي ومن ثم سياسي مختلف للنظام العالمي، فقبل أن تلملم بيروت اشلاءها، سارعت تركيا الى اعلان رغبتها في اعادة الميناء المدمر، الامر الذي استفز فرنسا والامارات الساعية عبر شركة موانئ دبي الى الامساك بمرافئ المنطقة من عدن الى بربرة وجيبوتي وبنغازي، في حين لاتزال الصين تبحث عن موطئ قدم على شاطئ البحر المتوسط للوصول الى افريقيا واوروبا، اما روسيا فبدت مكتفية حاليا بمكاسبها في ميناءي اللاذقية وطرطوس السوريين، راسمين بذلك خطوط حروب ناعمة تجري بعيدا عن الاضواء للامساك بمعابر الاقتصادات والمصالح والطموحات الكبرى،  واذا كان جذر الصراع الدولي وبناء نظام عالمي جديد، التنافس على ثروة الهادئ والقطبين  الشمالي والجنوبي، فان ساحته الشرق العربي الملعون بالف لعنة، الذي بات الملعب الارحب والمفتوح لكل صراعات التاريخ والازمنة.