بيروت أعماقنا المصلوبة

آراء 2020/08/27
...

د. نازك بدير*
 
 كلّما حدّقْتُ في داخلي أكثر، كلّما حفرَتْ غرز الإبر ندوباً في وجهي راسمةً تارة الرّقم أربعة ، وتارة أخرى غيمة بيضاء تتعالى فوق إهراءات القمح، وطورًا آخر، أخالها اليدين اللتين تعمّدتا بالدماء، وتعانقتا حتى النّفس الأخير.
 لطالما فكّرت بوشم على اليدين أو الظّهر أو القدم، لكنْ لم تراودني فكرة أن يرافقني روسم ٌعلى خدّي الأيسر مدى الحياة.
الآن، وبعد مضيّ اسابيع  على الكارثة، لا يزال الصّنبور يسيل دماء كلّما أردت غسْل وجهي، علّني أنزع صورة الغبار عنه، فإذا بشلال دم يجري، وفي كلّ مرّة تختلط أشلاء أطفال، وفتية، وشبيبة، وكهلة قضَوا هناك جميعهم بلا ذنب.
كيف أمسح هذا الغبار عن وجهي، وروحي صدئة؟ كيف أمسح هذا الغبار عن وجهي، وروحي مصدّعة؟ كيف أنفض هذا الغبار عن وجهي، وأنا في عداد المفقودين تحت الركام؟ كيف أمسح هذا الغبار عن وجهي، وأنا» باميلا» بين يديها ثلاثة أرواح بريئة
مولودة الآن؟
أنا تلك السيّدة التي باتت ليلتها في الشارع، بلا منزل، تحرس ما تبقّى من دكانها الصغير، أنا تلك السيّدة المُسِنَّة التي رفضت الاستقالة من منزلها الآيل إلى السّقوط، تمسّكَتْ به تمسُّك الجنين بالحبل السّري، أنا والدة» دجو نون» الذي اتصل منتظرًا رفْع الغبار عنه، أنا « ابني حلو وعيونو عسليّة مغنّج، حدا شافو؟» أنا كلّ هؤلاء، أنا ممتلئة بهم، أنا» كارلن» التي فجعت بزوجها، وأخيها، وابن عمّها، أنا شقيقة الملازم» أيمن نور الدين» الذي منحه القدر أسبوعًا واحدًا ليسعد بترقيته، وكان العروج إلى السّماء...لا يزال الألم يعتصرني جرّاء تحطّم المستشفى، صور المرضى محفورةٌ في
ذاكرتي.
الرّحمة يا رب! امرأةٌ تلد لحظة الانفجار! الحياة في عين الموت! الخراب في كلّ مكان، لا شيء سوى الدّمار، ورائحة الموت، بيروت أُمّنا مصلوبة، أبناؤها، تركوا إكليل شوك ستّ سنوات فوق رأسها. 
المرفأ، شرفتنا على العالم، خانَ المدينة، هبّت منه ريح سقيمة، ابتلعَت المارّة والأحياء والشّوارع الحزينة...مَنْ يعيد الحياة إلى أمٍّ صُلِبَتْ على مذبح الفساد؟
أستاذة في الجامعة اللبنانيّة.