شجاعة الإمام الحسين {ع} منهج حياة

استراحة 2020/08/27
...

شيخ مقداد البغدادي
لا يخفى على الناظر في سيرة الإمام الحسين عليه السلام الصفات الكماليّة التي اجتمعت فيه، ومنها قوّة الإرادة، وصلابة العزم والتصميم، فقد ورثها عن جدّه الرسول الأعظم( صلّى الله عليه وآله وسلم) الذي بدعوته غيّر مجرى التاريخ، وقلب مفاهيم الحياة، ووقف صامداً وحده أمام القوى الهائلة، التي هبّت لتمنعه عن أن يقول كلمة الحقّ، فلم يعن بتلك الجموع، وكلمته المعروفة التي قالها لعمّه أبي طالب مؤمن قريش:" والله، لو وضعوا الشمس بيميني، والقمر بيساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتّى أموت أو يظهره الله".
وهو القائل في خطاب النهضة الأخير قبل مغادرته المدينة المنورة: أسير بسيرة جدي محمد (ص) وأبي علي (ع)، فبهذه الإرادة الجبّارة قابل قوى الشرك، واستطاع أن يتغلّب على مجريات الأحداث، وهكذا كان موقف الإمام الحسين (ع) في وجه الحكم الأمويّ الظالم والهاتك للحرمات، فأعلن بلا تردّد رفضَه لبيعة يزيد بن معاوية، وانطلق إلى ساحات الجهاد، بالرغم من قلّة الناصر ليرفع كلمة الحقّ في وجه الظالمين وأعوانهم، وليدحض كلمة الباطل، هذا وقد احتشد بوجهه جيش الدولة الأمويّة بعسكره وعتاده، فلم يخف ولم يتوان عن مواصلة المسير لأجل تحقيق الأهداف السامية، وقد أعلن عزمه وتصميمه بكلمته الخالدة، فقال: "إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً"، وانطلق مع أهل بيته وإخوته وأخواته وأصحابه إلى ميدان الشرف والمجد ليرفع راية الإسلام، ويحقّق للأمّة الإسلاميّة أعظم الانتصارات في جبهة الحقّ ضدّ الباطل، إلى أن ختم حياته بالشهادة، ولكنّ الهدف السامي انتصر، فبقيت القيم والمبادئ الإسلامية لتنتفض بعده بوجه الاستكبار والظلم، ولترفع عن كاهلها كلّ من استبدّ وقهر، وفي معركة الطف كانت شجاعته وبطولته ينظر لها الأبطال، فقد قاتل أعداءه رغم أنه شهد مقتل أولاده وأهل بيته وأصحابه وكان (ع) رابط الجأش ويقدم على جنود يزيد بشدة وجلد ولم يسقط منه سيفه رغم عطشه وبقائه وحيدا في الميدان، فتنكشف الجموع عن يمينه وشماله وهم يخشون رغم كثرتهم أن تأتيهم ضربته، حتى إذا أثخنته الجراح، وسقط عن فرسه، قاتل راجلا متصديا لتلك الجموع التي تكاثرت عليه كالذئاب المتوحشة، وعندما فاضت روحه الطاهرة انكشف جسمه الشريف عن عشرات الجروح من الرماح والسهام والسيوف، فوصف جسده الشريف بأنه كالقنفذ من كثرة السهام عليه.
هذه الشجاعة ليست مقتصرة على صولاته في حومة الميدان، فكان من صفاته شجاعة الصراحة في القول، والسلوك. فطوال حياته لم يوارب، ولم يخادع، ولم يسلك طريقاً فيه أي التواء، وإنّما سلك الطريق الواضح الذي يتجاوب وضميره الحيّ، فابتعد عن كلّ ما لا يقرّه دينه وخلقه، فعندما أبلغه والي المدينة المنورة ليلا بموت معاوية وطلب منه البيعة ليزيد، مكتفياً بها في جنح الظلام، امتنع الإمام (ع) وقال له: 
نصبح ويصبح الناس ونتحدث، وفي الصباح قال للوالي بحضور الناس: "يا أمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد فاسق، فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحرّمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله"، وبهذه الكلمات كشف عن صراحته وسموّ ذاته وموقفه في طريق الحق، ومن ألوان هذه السمة أنّه لمّا خرج إلى العراق، وافاه النبأ المؤلم وهو في أثناء الطريق بمقتل ابن عمه وسفيره الى الكوفة مسلم بن عقيل، وخذلان أهل الكوفة له، فقال للذين اتبعوه طلباً للعافية -لا للحقّ: "قد خذلنا الناس، فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه ذمة"، فتفرّق عنه ذوو الأطماع، وبقي معه الصفوة من أصحابه، لقد امتنع عن اتباع أيّ أسلوب للتضليل أو الخداع، تجاه أصحابه في تلك الفترة الحرجة التي احتاج فيها للناصر، م
ؤمناً أنّ ذلك لا يمكن أن تتصف به النفوس العظيمة المؤمنة بربّها وبعدالة قضيّتها، ومن ألوان تلك الصراحة، أنّه جمع أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرّم، فأحاطهم علماً بأنّه يُقتل في الغد، ويُقتل جميع من كان معه صارحهم بذلك ليكونوا على بصيرة وبيّنة من أمرهم، وأبلغهم بأنهم يمكنهم التفرّق عنه تحت جنح سواد ذلك الليل، قائلا: إن القوم يريدونني أنا.. وهذا الليل ستار فاتخذوه جملا، فأبت تلك النفوس العظيمة مفارقته، وأصرّت على الشهادة بين 
يديه.
أمّا الصلابة في الحقّ فهي من أبرز صفات أبي عبد الله عليه السلام، فقد عانى ما عاناه في واقعة الطفّ ولم يغيّر مواقفه أو يحيد عن الخطّ الإسلامي، الذي رسمه من أجل إعلاء كلمة الحقّ، والانتفاضة في وجه الظلم والظالمين، فلا الإرهاب ولا العنف أثّرا في خطّه ونهجه على طريق الشهادة، هكذا رسم الإمام الحسين (ع) للأجيال المقبلة أنّ أصحاب الحقّ لا يجب أن يهنوا ولا يستكينوا إلى الظالمين ولو اجتمعت عليهم كلّ فلول الشرّ، فالنضال هو السبيل الذي اختاره الإمام عليه السلام لرفع راية الإسلام الحقّة من دون مهادنة أو استكانة، فالإمام (ع) عاين حال الأمة وقد غمرتها الأباطيل والأضاليل، ولم يعد ماثلاً في حياتها أي مفهوم من مفاهيم الإسلام الصحيحة بعد أن وليها أشرارها، فانبرى (ع) إلى ميادين التضحية والفداء ليرفع عن الأمّة وعن الرسالة الظلم الذي حاق بها، فأعلن (ع) هذه الحال وقال في خطاب له موجها لأصحابه: "ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه"، وهذا غيض من فيض تلك النفس 
الأبية.