ابتســامة واحــدة لثلاث موناليــزات

ثقافة 2020/08/27
...

جمال العتّابي

 

قدّم فنانو العراق القديم أعمالاً فنية في غاية الرقّة والجمال، وتعد مدينة نمرود الأثرية في الموصل درّة الحضارة الآشورية التي تعود للقرن الثالث عشر قبل الميلاد، موطناً لكنز يعد من أهم الاكتشافات الأثرية في القرن العشرين، منذ اكتشاف قبر الملك الفرعوني توت عنخ آمون عام 1923


تبدو (فتاة نمرود) باِبتسامتها الصريحة، المليئة بالحياة والعافية، النابضة بالرغبة الدافقة هي النقيض لاِبتسامة (موناليزا) دافنشي الساحرة الغامضة، فتاة نمرود، تتواصل مع ذلك العصر، تنتسب الى اليد المجهولة التي روت الأرض الخيرة، وصنعت هذا الجمال الذي أصبح أثراً من الماضي، لتختفي دهوراً ثم تعود كما لو كانت حلماً عام 1988، مع كنز من المجوهرات عثر عليه الآثاريون العراقيون، بعد أن تركها الغزاة

مطمورة في الوهاد بكل
وجودها الجميل.
وجه فتاة نمرود عمل نحتي يشرق بابتسامة عذبة تضاهي ابتسامة (الجيوكندا)، وحسب رأي بعض النقاد تعد الموناليزا الأولى في التاريخ.

لمسة ساحرة
أما موناليزا الإيطالي دافنشي
(1452 - 1514)، فهي لغز محير مخبوء في ابتسامة ينعكس فيها منظر إنساني بهيج مانح للسعادة، أودع فيها دافنشي كل براعته العبقرية في التعبير عن عصره المترف بلمسة ساحرة مرت على النهاية اليسرى من انطباقة الفم المقوسة إلى الأعلى، ترى ما هو السبيل للوصول إلى معرفة حقيقة المثال الذي رسمه دافنشي أو استوحاه؟، هذا الغموض الذي يكتنف وجه الموناليزا حمل الكثير على الذهاب في تقديراتهم إلى القول بأن الفنان لم يرسم غير نفسه، ولكن بملامح نسائية، أو ان المثل والأنموذج لم يكن في حقيقة الأمر
إلا رجلاً.
وفي متحف (البرادو) في العاصمة الأسبانية مدريد، هناك (موناليزا ثالثة) بمقاسات الجيوكندا الأصل نفسها، مجهولة الهوية، لم يعرف رسامها، البعض يعتقد انها تعود لأحد تلامذة دافنشي الأكثر قرباً منه وكان مرافقاً له، واثناء ذلك سمح له برسم الموناليزا، مقلداً إياه أو متأثراً به، وحاول أنْ يكون ناسخاً أو مطابقاً لرسم أستاذه، إلا أنَّ المعاينة الدقيقة والفاحصة للعمل، تستطيع أن تجد اختلافات عديدة في اللون والحركة، وطيّات الملابس وتفاصيل أبعاد الجسد، المقاربة الوحيدة، ربما تتمثل بالفترة التي رسمت فيها موناليزا (البرادو)، إذ تذكر التحاليل الدقيقة انها نفذت في الفترة التي رسم فيها الأصل (1503 - 1516)، أو الربع الأول من القرن السادس عشر، علماً ان دافنشي أكمل عمله عام 1510 قبل أنْ يقتنيها ملك فرنسا
فرانسوا الأول.
وفي رأي آخر يستبعد كل تلك الافتراضات، ويذهب إلى ان دافنشي كان يعمل على أكثر من (جيوكاندا)، ومما يعزز هذا الرأي ان موناليزا (البرادو)، لم تكن نسخة منقولة عن الأصل المحفوظ في متحف اللوفر في باريس. وهي أكثر
فتوة منها.

تجاعيد ورتوش
وتجدر الأشارة إلى ان خبراء اللوفر أجروا بعض الرتوش على الموناليزا للتخفيف من حدة الترهل والتجاعيد التي بانت على الوجه، وبقية الجسد، ووجد الخبراء ان طلاءً داكناً أضيف على لوحة (البرادو) في القرن الثامن عشر، وهذا الطلاء أخفى إلى حدٍ ما وجه جيوكندا مدريد، وأوحى بأنها منسوخة وليست أصلاً. وان مسؤولي اللوفر حريصون دائماً على الاحتفاظ بالموناليزا وعدم إعارتها بعد أن تعرضت إلى السرقة عام 1911، وأعيدت إلى إيطاليا، وبسبب هذا الحادث تعرضت العلاقات الإيطالية-الفرنسية إلى أزمة حادة، بعد أن أعلنت فرنسا موقفها الحازم بقطع العلاقات مع إيطاليا التي أرغمت على إعادتها وإصدار حكم مخفف على السارق الذي ادّعى ان اللوحة تذكره بحبيبته التي خطفها الموت بسرعة وهي في مقتبل العمر، إلا أن الفرنسيين سمحوا لموناليزا أن تسافر إلى الولايات المتحدة عام 1963، ومرّة أخرى إلى اليابان عام 1974، وكانت هي المرّة الأخيرة.
وبيدو ان مسؤولي متحف البرادو الأسباني أكثر مرونة من زملائهم في اللوفر، في السماح للوحة في التجوال، إذ يسود لديهم شعور بفك القيود عنها وإطلاق حريتها في الحركة، في أجواء تخص جمهوراً واسعاً ينحاز إلى أي شيء مجهول، يمنح الأعمال الفنية لمسة من الحنان
والعطف.

مقاربات فنيَّة
هكذا نمضي في التأويل والبحث عن المقاربات في الأعمال الثلاثة، وهي في كل الأحوال تندرج ضمن عنوان واحد، انها (أثر إنساني)، له موسيقاه الداخلية، بمعناه وجوهره يؤلف قضية واحدة، تحيا وتزدهر بالرموز والوعود والألوان والانتظار
والمواعيد.
ان هذه المقاربة تقودنا للمضي نحو موضوعة قراءة اللوحة، كوسيط يفصح غالباً عن لغة الحوار الداخلي الصامت، الذي ينشأ عادة بين رؤيتين، رؤية الفنان ورؤية المشاهد، وما دام لكل فنان مفرداته الفنية الخاصة في التعبير عن رؤاه، وما دامت تلك اللغة الحرة تعاش من الداخل، فإن على المشاهد أن يمارس الحرية ذاتها كي يفهم العمل الفني وينفعل به، ويستعيد حريته في التأمل. فليس من السهل قياس درجة التطابق بين عملين، أحدهما يريد أن ينسخ الآخر، لأن موناليزا دافنشي عمل يفيض ويمتد خارج
إطاره الزمني.