نقد الحقول

ثقافة 2020/08/27
...

ياسين النَّصير

 

لولادة أي نص ثمة أوليات لا بد من توفرها ولو على شكل لمحات غير مكتوبة، وأولها، أن لكل نص ثيمة أساسية أو أكثر، وما أن تبتدئ بالكتابة حتى تزيح الثيمة الأقوى بقية الثيمات الأضعف، وتتخذ الثيمة المهيمنة أشكالًا متعددة، وتكون كل ثيمة تشير إلى حقل من حقول بورديو، منها أن تكون الثيمات المهيمنة: كلمة، صورة، ذكرى، خاطر، حلم، تجربة، شيء،...الخ. وأن لهذه المهيمنات الحقل الذي ينتجها، وتشكل هذه المرحلة الأولى لفهم آليات تشكل مهيمنة النَّص.

فالكلمة إذا كانت من المهيمنات كما يتضح تنتمي لحقل اللغة، ولكن هذا الحقل سيكون موجودًا في الحقول الأخرى، كل الحقول تستثمر اللغة، لذلك لا بد من توصيف الكلمة المهيمنة، وتحديد حقلها. فكلمة مقهى مثلا تنتمي للمدينة، أو شارع ما في المدينة، وأن للكلمة اشتقاقات تنتمي لحقول انتاجية: القهوة- الزراعة- الصناعة- التجارة، السوق، وتنتمي لحقل الجسد- الشرب- الراحة- الخدر-، وتنتمي لحقل المجاز والمحرم، لأنها وفق


رأي بعض رجال الدين، تذهب جزءا من العقل وتنهى عن الصلاة والعبادة كما ذهب العثمانيون إلى ذلك، وانها تتعلق بحقل النار والحطب والموقد، فهي جزء من الحكاية المتخيلة، وتتوزان في بنيتها الصور الحسية مع الصور التخييلة، وهكذا نجد الكلمة بامتدادات حقولها وليس بحروفها وصوتها فقط.
 في المرحلة الثانية من اكتشاف الحقل نسعى لمعرفة الكيفية التي تتشكل فيها علاقتها مع بقية أجزاء النَّص، أي أنها تجد حقلها التفاعلي الذي ينتج حيثيات لغوية وصورية للثيمة المهيمنة، فحقل المقهى يجلب إلينا، الزراعة والفلاحة، والأرض، والثقافة، والأغنية والقصيدة، والحب...الخ، كما يجلب المناخ والاقتصاد والعملة والغنى والفقر والاحتكار والرأسمال والسوق والتجارة والعمال ووسائط النقل، كل هذه المكونات اللامرئية ونحن نرشف فنجان القوة تختفي في سلسلة من التواصلات الميدانية والعملية ويختفي وراءها آلاف العاملين الذي يوفرون قوت حياتنا اليومي، ولم يقف الأمر عند امتداد الحقل في المعارف والمدونات والحياة اليومية، سنجد ونحن نحتسي فنجان القهوة صورة للحرارة وللكهرباء والدخان وقاطرة الزمن النفسي عندما تقترن القهوة بمكان معين دون آخر، ومع صديقة، وبالكيفية التي تعمل بها دون اية معملية أخرى، هل نكتب قصيدة عن شحنات المقهى من دون ان تتشرب بالقهوة ونزلاء المقهى وتاريخ القهوة والكيفية والنوعية وطرائق الخدمة وآليات تقديم الإناء والفنجان، وما يحدث في قهوة الصباح القروية لفلاحين يحتسونها قبل الذهاب إلى الحقل أو فنجاني الذي يقترن يوميًا بالكتابة، أية حقول تتفجر كينابيع لغوية وجمالية بفعل فنجان قهوة
 سادة.؟.
 لم يكتمل النَّص بعد، فثمة حقول غير مرئية لم تستدع بفعل فنجان القهوة أو رائحتها التي تملأ الشارع وتستدعي الذائقة، اي ثمة حقل تتجوهر فيه ماهية الجسد وهو يحتسي قهوته كل يوم وكأنها متلازمة لاشعورية تقترب من الممارسة الجنسية، وانت تلامس حافة الفنجان
بشفاهك.
في المرحلة الثالثة، مرحلة المتلقي، عندما يقرأ النَّص الذي ولد من رحم المقهى/ القهوة/ الدخان/ الذائقة/ الفنجان/ العشق/ الصبوات...الخ، سيكتب المتلقي نَّصوصًا أخرى، كما لو أن القهوة وباء محببًا ينتشر في فروع المدينة والجسد متعقبين اية ظاهرة لم تستيقظ من سباتها بعد، فالعالم يتشكل عندما تحترق أجزاء منه برائحة وحرارة الأمكنة، هناك، ومن داخل عالمنا الجزئي، تتوالد صورة أخرى للنَّص، وسيكون هذه المرة نَّصا بطرائق تعبير مختلفة، سيكون شعرًا في النثر، ونثرًا في الشعر، وصورة في الذاكرة، وسيرة في المقهى، ومقهى في المدينة ومكانًا في شارع تبتكره القصيدة، وتفرضه كونية الأشياء المنسية التي استيقظت بفعل القهوة، وتستدعيه الذاكرة من تلافيف الأدمغة ليكون نصّا للمتلقي ونصوصًا بانتظار أن تنفتح عليها ادمغة وعقول القراء وجلساء مقهى الشارع والزقاق والمدينة والسوق ومطبخ البيت ولغة لم تتفتح بعد بانتظار أن تنتهي رشفات القهوة من دون مرارة. حقول تجوهرها وتؤولها وتفسر أبعادها: الحقل الأول حقل مكاني، (مقهى)، والحقل الثاني حقل معرفي مكاني، (تنوعات صورة المقهى مقترنة بحقول تمظهراتها) والحقل الثالث حقل تأويل استثماري مكاني. (قراءة وشرابا وتأملا، وتأويلا، وانتاجا منفتحًا).
يبحث النقد في علاقة المهيمنات في كل حقلول، ويكشف عنها كمفاتيح لفهم النَّص، ثم في الخطوة الثانية للنقد أن يتم البحث عن خيوط النَّص التي تمثلها المهيمنات وهي تتشرب الحياة الاجتماعية وأمكنتها وأزمنتها، للكشف عن العلاقات التي ترتبط فيما بينها مؤلفة نسيج النَّص. ثم في المستوى الثالث من النقد البدء بتحليلها وفق الحقول التي ستكون
 عليه.
مهمة هذه الطريقة النقدية، كبيرة لعل من أولياتها، اكتشاف بلاغة الحقول الثلاثة المنتجة للنَّص، كل مرحلة للنَّص ثمة بلاغة له فيها مختلفة .
هذه طريقة من طرائق النقد المكاني، لم تكن مألوفة في أية ممارسة نقدية تقليدية، لأنها ترفض عمليًا أية منهجية مفروضة على قراءة النَّص، لا منهجية للنَّص إلا من داخل النَّص نفسه، ولذك سنسمي هنا الخطوط العامة لمسار المهيمنات ونترك الكيفية التي يعالج الناقد فيها النَّص، شرط أن يلتزم برحلة سفر المهيمنات في الحقول عبر مراحلها الثلاث.
في السابق تكون الحقول المهيمنة خارج النَّص، كما لو كانت قوى او ايديولوجيا مسيطرة او اية صورة لطبقية قارة، في حين أننا في نقد الحقول، نستكشف هذه القوى من داخل بنية النَّص، أي من اللغة النحوية للنَّص، وهي غير اللغة النحوية للبلاغة القديمة، ولا اللغة النحوية للقواعد، اللغة النحوية للنَّص هي تلك التي تربط بين الفواعل انتاجها فيه، والتي في حركيتها واشتغالها ضمن الحقل او ضمن الحقول ولدت الشعرية. فالنحو الجديد لشعرية النص يأتي من الفواعل في حقولها المنتجة، وعندئذ لا مجال من الاحتكام لما تقوله غير هذه الحقول.