عطاءٌ غير منقوص

آراء 2020/08/28
...

حسن جوان
 
تفتقد الكثير من الشخصيات جزءاً وافياً من لمعانها الساطع اذا ما جرّدتها الحكاية من سياقها العاطفي، ويندرج ضمن العاطفي هنا الديني والميثولوجي والمؤسطر في الذاكرة الجمعية لا التاريخية فحسب، شخصية مثل الحسين بن علي(ع) الذي تعود ذكرى ثورته هذه الأيام لا يمكن أن يقع ضمن هذا الوصف المتقدم، حتى لو نظرنا اليه من خلال منظور تاريخي خال من العاطفة الدينية الجامحة، وهذا امر نادر وعصي على الزمن والعودة للمناسبة بشكل سنوي لا يهيمن عليها الشعور بالتكرار، بل الانبعاث والإحياء. 
على ان الطغيان العاطفي الذي تستدعيه ذكرى الواقعة الحسينية لا يستبطن شعوراً غامراً بالفجيعة الخالصة المنتكسة، بل يحوّل زناد لوعته نحو انجراف جماعي هادر بالثورة على الظلم، انه حزن يورث خزيناً عاطفياً جماعياً مضادّاً لصرخة الجلاد وسوط عذابه، ومقياساً دائماً للثورة ضدّ الحيف والفساد أينما حلّ. 
طغيان العاطفة الحسيني هذا بثّ عبر ثقافته المتوارثة نزوعاً رحيماً لدى المجتمع لدحر الصورة التاريخية البشعة التي عومل بها الحسين(ع) واهل بيته وحريمه واطفاله من قسوة وحرمان من الماء والطعام وتمثيل بالضحايا واذلال للأسرى عبر هذه الأنواع اللاانسانية من الحرمانات الدنيئة والتي لم تستثن طفلاً او شيخاً او امرأة. 
احياء شعائر نقيضة لهذه الدناءة من خلال إشاعة الرحمة واطعام الفقراء والغرباء والقرباء وسقي الماء عبر سبل مبثوثة في الطرق للسائرين والتباري الروحي في مظاهر الجود والعطاء والرحمة كلها موروثات واعية لدحر قتلة الحسين الذين انتهجوا سبلاً لا أخلاقية في مواجهة غرباء الطف وسادة زمانهم. 
ما يستدعي العَبرة في هذه المناسبة هو نفسه ما يستدعي المفخرة، ويمكن تعداد كل من المتقابلين من فخر وعزاء ها هنا، لذا سارت هذه الذكرى وهي تحتمل نسيجاً متواشجاً يتعاظم مع الزمن ويتقاسم الحزن والفخر والتضحية الفريدة ودرساً أخلاقياً وثورياً لا ينضب حتى لو استثنينا محتواه العربي والاسلامي.
درس الحسين(ع) الذي قلب زمانه ومثّل اعظم هزة في التاريخ الإسلامي لم يقتصر على تحريك عصره بسلسلة ثورات ضد الطغيان والانحراف، لكنه يمتلك قوة انه منح نبراساً للزمن يتعزى به الفقراء والضعفاء مدى القرون، كما يتسلح بعزائمه الثائرون على مدى الدهور.
جسد الحسين (ع) الآن يتوسّد سماء قلوب الملايين من الغيارى الذين يتوقون للانتساب الى عدالة شهادته ونصاعة قضيته، وهم انفسهم الذين تداعوا لينصروا الوطن ضد قتلته الأوائل الذين عاثوا في الأرض قتلاً وتشريداً، لقد كان الحسين حاضراً في تحرير كل قرية ومدينة من قوى الإرهاب والظلام في العراق، وكان رحيماً بالأطفال والنساء والشيوخ، كان عادلا ونبيلا في عفته وحرمة نظرته الى الأرض والعرض، كانت الصرخة المدوية التي يهتف بها الشهداء وهم يتقدمون نحو النصر: يا حسين.