الحرية بين عالمين

استراحة 2020/08/28
...

ميادة سفر
 
غابت أو تكاد منظمات المجتمع المدني عن العالم العربي، ومجرد ذكرها يثير قلقاً وحساسيَّة لدى البعض، فقط لأنها تتحدث عن حرية الأفراد وحقوقهم، ليتم التصدي لها وعدم إفساح المجال أمامها للعمل من قبل السلطات تارة ومن جماعات متشددة فكرياً ودينياً، فلماذا أخذنا كل ما قدمه لنا الغرب ورفضنا الحريات سواء الاجتماعية أم السياسية؟
الحرية هي قدرة الفرد على اتخاذ قرار ما أو اتخاذ موقف أو خيار دون ضغط أو إكراه من أحد فرداً كان أم سلطة أم جماعة.
وهذا المفهوم هو تحديداً من تبناه الغرب وبنى عليه ديمقراطيته، انطلاقاً من أهمية دور الفرد في بناء المجتمع، فهو الأساس الذي تقوم عليه الدول وتنهض.
منذ إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي تبنته الثورة الفرنسية عام 1789 وحتى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته وتبنته منظمة الأمم المتحدة عام 1948 وحتى اليوم، ركزت الحقوق التي أعلن عنها على الفرد بشكل خاص ومباشر، من حقه في الحياة، وحرية التعبير، والحق في الفكر والوجدان والدين، إلى حق التملك، وتكوين أسرة، إلى غيرها مما اتخذ من الفرد أساساً له، على اعتبار أنه حجز الزاوية الذي يرتكز عليه كل ما يأتي لاحقاً.
فطالما كان بناء الإنسان سليماً كانت المجتمعات سليمة، لذلك رُفضت وحوربت كل فكرة تقوم على تهميش الفرد وإحلال مفهوم الجماعة أياً كانت محله، كما حصل للأحزاب الفاشية التي حملت نزعات قومية متعصبة تمجد الدولة، فلم تجد لها مكاناً إلى لحين.
على النقيض تماماً كانت الحال في الوطن العربي، فكان الفرد آخر الهموم، على الرغم من النصوص الدستورية التي تتغنى بحقوق الأفراد، إلا أنها لطالما بقيت حبراً على ورق، لصالح الجماعة سواء كانت أسرة أو قبيلة وصولاً إلى الدولة ككل، وخولت كلاً منها صلاحيات لمحاسبة الفرد الذي يشذ عن مفاهيمها حتى وإنْ كان يمارس حقاً من حقوقه، فالأسرة تحاسب أفرادها لمجرد رفض أحدهم الانصياع لها حتى في حقوقهم الشخصيَّة كالدراسة والزواج واختيار أسلوب العيش، أما الجماعات الدينية فمنحت لنفسها الحق في التكفير والوعيد بالنار والجحيم لمن خرج عليها وعنها، والسلطات الحاكمة تضيق وتعتقل وربما تقتل كل من تسول له نفسه الانتقاد أو المطالبة بمحاسبة الفاسدين أو حتى المنافسة على المناصب.
تعيش الحرية اليوم بين عالمين مختلفين، يشجع عليها أحدهم ويمارسها، ما أسهم في نهوضه وتطوره واستقراره لدرجة تحكمه في العالم، وآخر تسبب له رهاباً وتقضّ مضجعه، فبقيت دوله متأخرة، منشغلة في تحريم هذا وتجريم ذاك، في اقتتال بين جماعات تدعي كل منها أنها على حق.
إنَّ الحاجة لتفعيل منظمات المجتمع المدني اليوم ضرورة ملحة أكثر من أي وقت، لعلها تمكن الفرد من إيجاد جدوى لوجوده حيث يعيش، للانتقال إلى دول أكثر احتراماً لمواطنها كفرد مساهم في بنائها وبنيانها.