الهوية الوطنية العراقية - 2 -

آراء 2020/08/30
...

ابراهيم العبادي
 
يُجمع العراقيون بمختلف انتماءاتهم على ان هويتهم الوطنية متصدعة، وان انتماءهم الى العراق مشوب بعناصر انتماء اخرى، تعلو على ذلك الانتماء،  وتزاحمه شعوريا وسلوكيا، رغم ان اكثرهم-  ولا أقول جميعهم - يحبون العراق حبا جما، ويتمنون رفعة ونهوض بلدهم، لكنهم مختلفون الى حد الصراع والاقتتال والتعارض المفاهيمي على كيفية النهوض بالبلاد وبناء الدولة وترسيخ الوحدة الوطنية والسلامة الاجتماعية .
 نقطة الانعطاف التي حصلت بسقوط دولة الاستبداد والقمع والفشل عام 2003، كانت تمثل بداية مرحلة جديدة - مفترضة - لإعادة بناء الدولة وتجاوز عيوب ومسببات الفشل الحضاري الطويل الذي آلت اليه. لقد كانت الدولة وعبر نظامها السياسي (السلطة) هي المسؤول الاول عن تفكك المجتمع وتدهور شعور العراقيين بمفهوم الهوية الوطنية الجامعة، وفي هذه اللحظة المفصلية حصل خطأ جسيم اخر في تاريخ العراق السياسي، فقد سارت الامور بالاتجاه الخاطئ تماما لبناء الدولة الحديثة وصار بناء الهوية الوطنية يسير بالاتجاه المعاكس، فلم يعد المواطنون يشعرون  بانهم ذوو هوية جامعة توحدهم وتدعوهم  الى العمل والبناء، وتعويض سنوات الهدر والحرمان والفقر والاقصاء والعنف والخصومة المجتمعية والمذهبية والقومية التي لم تختف يوما ما .
الان بات بإمكاننا القول ان سنوات ما بعد 2003 كانت ابعد ما تكون عن مشروع اعادة بناء واعية،  لضحالة الفكر وفقر التجارب، وسطحية الطبقة السياسية، فقد ظهر واضحا تدني  مستويات الادراك - وفق مفاهيم علم النفس السياسي - لمعنى وقيمة وضرورة النأي عن اي خطوة او سلوك سياسي او خطاب ثقافي او بناء مؤسسي او قرار اداري او امتياز اقتصادي او مالي يقوض الشعور الجمعي  بالمصلحة العراقية العامة وليس المصلحة الفئوية، صحيح ان البلاد كانت تعاني من تعددية سياسية انقسامية، وتصادم بالمشاريع والطموحات والتنافس الشرس، لكن البناة لم يكونوا- وربما لم يريدوا- السير بوعي وحذر واحتياط في ذلك، مضافا الى الكيد السياسي والمشروع المعادي متعدد الاتجاهات، فلم ينتج عن هذه المسيرة الملتهبة الا تنازع ايديولوجي صاخب وتقسيم للمجتمع، وانهيار لمؤسسات الدولة واحتراب علني او مضمر بين الطوائف والقوميات والاثنيات وانقسام داخل هذه المكونات والمؤسسات الاجتماعية او الدينية  .
في هذا المعترك الرهيب ضاع الفرد -المواطن، واستقطبت القوى الحزبية والسياسية الى مرجعيات سياسية ومشاريع ايديولوجية تقودها محاور اقليمية ودولية. وما عاد العراقي يشعر في وعيه ان دولته تمثل اولوية سياسية عنده ومرجعية سياسية نهائيا، فقد ضاعت الهوية واضمحلت الدولة وقويت قوى ما قبل الدولة (الدين، المذهب، الطائفة، العشيرة) وقوى موازية للدولة تنافسها على السيادة والفعل واستخدام السلاح والنفوذ على المواطنين وتملي مواقفها وتأخذ حصتها من الريع تحت غطاء الانتماء الى الدولة، اصبحت الدولة اسما على غير مسمى، وتلاشت شوكتها وتوزعت هويات مواطنيها وعجزت عن الانجاز وتوحيد الراي العام ومشاعر المواطنين وارادتهم لمواجهة التحديات وانجاز الوظائف المنوطة بها.      
كان انطلاق احتجاجات تشرين لحظة (تدشينية) لوضع النظام السياسي تحت مبضع التشريح، وكان ممكنا الاستفادة من هذه اللحظة لتكون محطة  مراجعة لمسيرة النظام وتفكيك الالتباسات لو لم تنعطف هذه اللحظة الى صراع ايديولوجي مكشوف بين قوى السلطة وقوى تريد انتزاع هذه السلطة تحت مسمى الاصلاح والتغيير والثورة على الواقع .
هل دشنت لحظة تشرين بداية صياغة لهوية وطنية جديدة تستوعب المتغيرات وتدمج التباينات والتمايزات والهويات الفرعية؟ يصعب الجواب بنعم، فما لحظة الاحتجاج الا بداية اعتراض وصدمة وعي، لقد رفعت شعارات كبيرة واعلن هذا الاحتجاج الساخط انه سعى الى استخلاص الدولة الضائعة من مخالب قوى لا تؤمن بفكرة الدولة السيدة المهابة، باعلاء فكرة العراق أولا واخيرا، ومصلحة العراق ومواطنيه واقتصاده وسيادته فوق مصالح الاشقاء في الدين والمذهب والقومية، لكن خطاب الاحتجاج لم ينجز سوى التذكير بهذه الحقائق، ومهاجمة من يظن انهم مسؤولون عن انحطاط فكرة الهوية الوطنية، فالواقع يقول ان الاحتجاج ظل محصورا في نطاق جغرافي وحاضنة اجتماعية محددة (شيعية) ولم يتحول الى خطاب وطني مقنع للشركاء الاخرين، الا اذا سلمنا بان الاكثرية الشيعية تتحمل مسؤولية انقاذ الدولة من القوى المهيمنة عليها، عندئذ سيقال ان الاحتجاج شيعي ضد حكم يغلب عليه الشيعة عدديا، وبالتالي ما على الاخرين سوى انتظار ما يسفر عنه هذا الصراع، لكن شرط نجاح هذا الحراك في صياغة هذه الهوية الوطنية الجامعة معلق على رؤية عقلانية جاذبة لشركاء الوطن خارج الشيعة ليحملوا نفس الاهداف والغايات، ولا يعود الكردي يفكر بخلاصه خارج فكرة العراق الموحد، ولا يعود السني يعلي من شأن سنيته بدعوى انتمائه لاكثرية سنية عالمية او عروبة قومية خارج حدود العراق، ولا يتجه التركماني الى تركيا ضامنا وحاميا مثلما على الشيعي الا يفكر بغير العراق أولوية او مسؤولية أو تكليف او ولاء. فلن يكون معنى لانفراد فريق وطني بتحمل مسؤولية انقاذ البلاد والدولة والمجتمع من الوباء السياسي ليستمتع الاخرون بنتائج وفوائد هذه الحركة سياسيا وهوياتيا دونما مساهمة في تصحيح الانحرافات عن الهوية العراقية بمستوياتها المتعددة، فالهوية شرط معلق على حراك كل فئات المجتمع واطيافه لتنقيح الواقع من انحرافاته وعلله، فهل سيتحمل شركاء الوطن من السنة والكرد والاخرين المسؤولية ويعاد للمواطنة والانتماء الاكبر اعتبارهما،  ليبقى العراقيون موحدين بالانتماء وارادة العيش المشترك والمشروع السياسي الواحد !؟.