ما لم يقله السارد.. قاله الوقواق

ثقافة 2020/09/01
...

  أشواق النعيمي

 
 
تستهل رواية «قصة عرش العراق» للروائي عبد الكريم العبيدي بمقدمة كابوسية تذكرنا بمقدمة كافكا في رواية «المسخ»، إلا أن التحول هنا طال سرير السارد الذي انقلب بحركة مباغتة إلى حصان، وبحركة أخرى غادر ثباته وأخذ يمشي على وقع دقات ساعة بيغ بن. رافقت حركة الحصان السريري تحولات ارتدادية لموجودات الغرفة من جدران وأثاث. سرعان ما تراجع السارد عن يقين الرؤية محاولا لم شتات الصورة التي تشوهت وتبعثرت أجزاؤها وأعاد كل ما في الغرفة إلى مكانه الطبيعي حين أعلن أنه هو الذي كان يتشوه وليس الأشياء.  يجتهد المؤلف في لعبة التقطيع والتشويه وإعادة اللصق والتركيب مرة أخرى موظفا تقنية الكولاج في تجميع مقتطفات متنافرة ألصقت بترتيب نسقي متداخل مع بنية الخطاب السردي في محاكاته لتاريخ العرش العراقي منذ بداية نشوء الدولة العراقية وتتويج الملك فيصل أول ملوك العراق حتى عام 2003 وما تلاه. 
على قارئ الرواية أن يكون حذرا وهو يخطو داخل حقل الحكاية الملغمة بالرموز والإيقونات الصورية، فليس كل ما حكي كان سردا جليا. اللغة المحملة بالدلالات والرسائل اللفظية المشفرة كانت حاضرة بقوة توازي قوة السرد التاريخي على لسان الراوي العليم لمسرود له افتراضي حرص المؤلف على وجوده كشاهد تاريخي ومستمع صامت. تخلو البلاد من الموسيقى التي يفترضها السارد معادلا لمعاني ميتافيزيقية تتعلق بالسعادة وإن كانت سعادة عابرة لكنها يمكن أن تداوي جراح الأرواح وتلجم أصوات الرعب المتصاعدة. يعود الحصان إلى واجهة الحدث لكنه حصان آخر لايشبه حصان الغرفة. حصان غاضب يصهل صهيلا مجلجلا كالرعد إشارة إلى شجاعة رفض الواقع وعدم الرضوخ والاستسلام. في الصورة الفنتازية ذاتها مسيرات صامتة لأشخاص يرفض السارد منحهم صفة البشرية مؤكدا أنهم مخلوقات تشبه الإنسان وربما متناسخة عنه. حتى الظهور الشبحي للمسرود له «الملك فيصل الأول» على مسرح الحكاية لم يكن حدثا اعتياديا، بل إضافة تركيبية لصورة قديمة باهتة عمل المؤلف على إعادة بث الحياة فيها. السارد يروي للملك ما فاته من حدث تتويجه وقصص التتويج اللاحقة وسط زقزقة وشقشقة وابتسامة طائر الوقواق المحتال في إحالة رمزية إلى إرادات الشر التي تجيد التخفي بخبث ودهاء. الطيور في الرواية رسائل ذات دلالات مختلفة، فبكاء الحمام يشير إلى قرب الرحيل ورفرفت أجنحة أنثى طائر الصفرد وتغريدها الذي يشبه صفير الهاتف المتقطع في أكثر من مشهد في الرواية جرس إنذار لحدوث انقلاب سياسي وشيك. أما نعيق أبو زاجر أو Crow فكان علامة مؤكدة للموت. حتى الزهور السامة لها وظيفة في المنظومة الدلالية فقد شكل حضورها في حفلات التتويج الرسمي لملوك العراق أيقونة ناعمة للغدر. في الحقيقة يحاول المؤلف من خلال اللغة الدلالية التحرر من نمطية السرد التاريخي من دون أن يتلاعب بمصداقية المسار التاريخي للوقائع والأحداث. وبين كل حدث وحدث لازمة ضحك تحول المأساة إلى ملهاة سوداء يمكن التعاطي معها بقليل من الضحك المر. وقد تتبع اللازمة عبارة “ركوب الزحليقة” في إشارة إلى انتهاء دور الشخصية في اللعبة السياسية. يسبق حدث الترجل عن كرسي الحكم أغنية من الفلكلور العراقي. لكل شخصية سياسية أغنيتها المناسبة التي وظفت بوصفها بنية ذات دلالات تحذيرية.. وتمثل أطباق المطبخ العالمي استعارة للمؤامرات الدولية التي وصفت بالطبخة أو الكعكة أو الصينية، يعد المطبخ الأنكليزي أشهر المطابخ التي أسهمت في إعداد وتجهيز وليمة العراق، كما تعد “كعكة الشيطان” أشهر أنواع الكعك الذي جهزه المطبخ الأميركي. 
ويمثل التناص الأدبي في التراجيديا المسرحية “هاملت” سيناريو مركبا يعالج ثيمة الانتقام في لعبة العروش الملكية، يجمع السارد بين قصة انتقام هاملت من عمه كلوديوس وانتقام هاملت العراقي الذي تجلى في لعنة الملكة العراقية سيمورامات في انتقامها من السير مود في النهاية الدرامية ذاتها. تنتمي الرواية إلى نمط السرد المشفر الذي لا يكتفي بالخطاب الصريح أسلوبا للحكي بل يتجاوزه إلى بنيات متنوعة تحمل أنساقا لغوية موجهة إلى متلقٍ ذكي يجتهد في التأويل والبحث عن الصلات بين تلك البنيات ودلالات توظيفها الروائي.