ياسين النصير
بعد الثورة المعلوماتية التي وفرتها العولمة للاتصال والتوصيل، لم تعد النظرة التقليدية للأمكنة في الأعمال الأدبية بالطريقة القديمة التي كنا ننظر بها النصوص في السابق، إذ لم يعد المكان اليوم، مهما كان حيزه وحجمه ودلالته وموقعه، مجرد مقتطع طبيعي أو متخيل، بل تحول إلى علامة سيميولوجية يمكن توسيع دلالته وتعميم أيقونته وتحويله من محليته إلى عالمية الدلالة، فالمقهى، البيت، السجن، المستشفى، الشارع، الدكان ...الخ، ليست أمكنة محلية لو أضفنا محتوياتها إلى هويتها، بل هي حقول عالمية لدلالة معنى أشمل من محليتها، وإلا لم تكن قد اخترقت الذاكرة واحتلت فضاء النص.
سقتُ هذه المقدمة الإيضاحية البسيطة، للحديث نقديًا عن الروايات الحديثة التي تتعامل مع أمكنة عراقية بأزمنتها المعاصرة أو التاريخية، لأجد فيها غير ما تجده النظرة النقدية التقليدية لهذه الأمكنة. من أن المقهى تبقى مقهى، وان الشارع يبقى شارعًا، وأن السجن يبقى سجنًا، وعندما استطيل بالاستعارة والبحث عن دلالات أعمق لهذه الأمكنة الأليفة عليَّ أن أفتح المكان على محيطاته المكونة له، لأجد أن السجن يرتبط بالسلطة، وأنه من مهيمنات العقاب، وله تاريخ موغل بالزمن، ومقترن بالحكم، وبالعقاب، وأن له مثيولوجيا دينية واجتماعية مسلطة حيثياتها على من يخالف القانون أو يعارض السلطات، وانه ليس ثابت التشكيلة إنما هو جزء من مثيولوجيا السيد والعبد، إن مفردة السجن مقترنة بالتقييد، تقييد الحرية الجسدية وتقييد بوضع القيد للحجز، كما أن السجن يعني المكان الضيق الذي تفرض بنياته نوعا من العقاب على السجناء حتى من دون ان يكون هناك عقاب، وقد رأيت في بلدان عدة ان السجون متشابهة من حيث تركيبتها البنائية وألوانها والفسحات المحددة، وطرائق السكن فيها وقلة ما تحتويه وصلابة جدرانها وتماسك بنائها مضافا إليها حرسها والقوة التي تحمي مخاوف السلطة، فالسجان هو الآخر يخضع لمنطق السجن نفسه. ليس هذا فقط، بإمكانك أن تقرأ مدونات محاضر السجناء اثناء التحقيق فالتشابه بين مفرداتها بالرغم من اختلاف القضايا يعطيك انطباعا أن الكثير من مفردات التحقيق مشتقة من السجن والسجين والقضية والتحقيقة والمعلومات والاخبار، ويعني ذلك ان امكنة القمع تستعير لغاتها من تاريخ الاختلاف، كنت في زيارة أدبية لإحدى مقاطعات السليمانية القريبة من منطقة جبلية، وشاهدت غرفة مبنية من الأحجار في فضاء يمر بالقرب منها الطريق الذي اوصلنا لمضافة احد الشيوخ الكرد، ولما سألت عن هذه الغرفة التي تبدو وحيدة وموقعها لافت للنظر، قالوا لي هذه سجن الشيخ لمن لايطيعه من الفلاحين، نظرت الى الغرفة وبالفعل رأيت احد السجناء واقفا يلوح بيده ربما كان يتأمل منا نحن الأدباء أن نطلب من الشيخ إطلاق سراحه، ولما مُدت سفرة الأكل الثرية والمتعددة، وجدت نفسي أغص بأول لقمة ثم تركت المائدة وذهبت خارج المضافة لأنظر إلى تلك الغرفة الصغير التي تحجب أعينا وجسدا عن أن يكون حرا، لا أعرف قضية هذا الفلاح الكردي، ولكني شعرت بنفسي يوم كنت وراء عشرات الأقفال لغرف متنوعة ابتداء من عام 1963 وحتى عام 1985، حيث العديد من الغرف ولكنها، وبالرغم من تنوع أمكنتها بهيئة قمعية واحدة وبألوان متقاربة. ترتبط غرفة السجن بالمأوى المؤقت، ولكن المأوى القمعي، إذا كيف يمكنك أن تدخله إلى نصك الروائي إذا لم تستعر لغته العدائية ضد الجسد؟. ربما لايعرف الكثير من روائيينا الشباب ان للأمكنة لغاتها المستمدة من هوياتها، وان هذه اللغات مشحونة بطبعية بنائها ووظيفتها، وانها كفيلة لو اتقن الروائي الرؤية لها، لعبرت عن هوية السلطة العليا. ترتبط غرفة السجن بالإنسان، لأنه يعي معناها، ويتعمق الاحساس بها بالزمن الذي يقضيه السجين فيها، ولذلك يزداد حجم الجدران والأبواب والأقفال كثيرًا كلما مر وقت طويل على السجين، نعم الجدران تتضاعف وكذلك الابواب والسقوف والأرضية تضيق والقفل الصغير يحجب الرؤية، وتصبح النافذة مرتبطة بالعين متتبعة خيوط الضوء والظلام.