الخطابُ صنعةٌ

ثقافة 2020/09/01
...

  محمد صابر عبيد

يمكن النظر إلى مفهوم «الخطاب» بوصفه الأداة الفاعلة التي تحقق التواصل بين المتكلم والسامع، بين الكاتب والقارئ، بين الصوت والصدى، عن طريق وسيط ناقل هو اللغة المنطوقة بين المتكلم والسامع واللغة المكتوبة بين الكاتب والقارئ، والإيقاع الصوتي بين الصوت وصداه، على النحو الذي يحملُ المتكلمَ عبءَ صوغِ الكلامِ بما يناسب المقام والحال، مثلما على الكاتب فعل الشيء نفسه للوصول إلى منطقة القارئ بأيسر السبل وأرقاها، بالمعنى الذي يجعل من «الخطاب» صنعة قد تتفوق على أشكال الصناعات الأخرى مهارة ونتيجة وتأثيراً وتداولا وشيوعاً وشهرة

تنتمي العلاقة بين الخطاب والصنعة لأنموذج علائقي جدليّ لا يمكن التعاطي مع طرف من طرفَي العلاقة من غير استدعاء الطرف الآخر، فالخطاب كيان متكامل يحتوي على وحدات تكوينيّة متآلفة ومتفاعلة داخل فضاء حاوٍ، لا يسمح لهذه المكوّنات أن تصل إلى درجة عالية من الانسجام والاتحاد والتبنين من غير الخضوع لصنعة عالية المستوى، تضع كلّ شيء من أشياء هذه العملية في مكانه الصحيح والضروريّ والمناسب، فلا خطاب على هذا النحو بلا صنعة تحقّق فيه أبلغ درجات التماسك والصيرورة والتماثل الناجز في الهدف والمقصد، بمعنى أنّ الخطاب لا يتكوّن على نحوٍ عفويّ خالٍ من التخطيط والهندسة والبناء الهارمونيّ في مفاصله وطبقاته وتحولاته ومراحله كلّها، بل يخضع لأدوار تفعل فيها الصنعة فعلها كي تنظّم العلاقة البدئيّة أولاً بين النصّ والقارئ، ومن ثمّ ترتّب سبل الاستقبال والتلقّي وأثر ذلك كلّه في النتيجة التي ينتقل فيها النصّ المقروء من نصوصيّته الكامنة إلى مقام الخطاب.
تُروى حكايات وقصص كثيرة في التراث العربيّ عن ثلّة من الخطباء المهرة الذين كانوا يصوغون خطبهم بِطُرقٍ بالغة التأثير في وسط التلقّي، حتّى صارت الخطبة من أرقى الفنون وأكثرها قدرة على جلب الحظوة والمال من لدن أصحاب السلطة، بكلّ ما يفرزه ذلك من صراع بين أفصح الخطباء وأمهرهم على احتلال المواقع الأُول في مجالس الخلفاء والحكّام وأولي الأمر، بمعنى أنّ «الخطبة» نوع تاريخيّ من أنواع الخطاب تحتاج إلى كفاءات متعدّدة وكبيرة لبلوغ المراتب المقصودة والمقامات المرموقة، يعادل الخطباء في ذلك الشعراء الفحول وهم يصوغون خطاباتهم الشعريّة على وفق ما كان يسمّى «الغرض الشعريّ» – مدحاً وهجاءً وفخراً ورثاءً وغيرها -، ممّا تحتاجه المؤسّسة السياسيّة والدينيّة والاجتماعيّة وتكافئ الشعراء عليه أجزل المكافأة وتقرّبهم كثيراً من كنفها، وكان الخطيب والشاعر يسعيان نحو التجويد في صناعتهما إلى أعلى الدرجات المتاحة والممكنة، بحيث يبزّ الخطيب سواه من المنافسين، ويتغلّب الشاعر على من يزاحمه من زملاء المهنة للحصول على العطاء والسمعة والحضور الرسميّ أو الشعبيّ.
كان بعضٌ من الشعراء العرب القدامى في العصر الجاهليّ يولي قصيدته عناية بالغة بحيث يظلّ يشتغل عليها عاماً كاملاً، وسمّيت هذه القصائد التي تخضع لهذه الدرجة العالية من الصنعة بالقصائد الحوليّة، أو المحكّكة التي تخضع للتحكيك المستمرّ حتّى تصل إلى المقام الأنموذجيّ فيستقرّ شاعرها على صورة استوائها وصيروتها المتكاملة، بما ينطوي عليه هذا العمل المهاريّ الصوغيّ من وعي كبير بضرورة «الصنعة» القادرة على الوصول بالعمل الفنيّ إلى مستوى عالٍ من الحِرَفيّة والنحت والتجويد، إذ كانت هذه القصائد تنتظر نشاط الصنعة حولاً كاملاً لتصل إلى أعلى مرحلة يتوقّع شعراؤها إيقاع أبلغ الأثر في نفوس السامعين، إذ تصل القصيدة مرتبة الخطاب في مساحة مجتمع التلقّي ويكون تأثيرها في أعلى درجاته.
ما ينطبق على القصائد في هذا المضمار يمكن أن ينطبق على أشكال النثر التي تحظى لدى العرب القدامى وعلى مرّ عصور الحضارة العربيّة الإسلاميّة بعناية بالغة جداً، فالصنعة دليل وعي ودليل ثقافة ودليل حرفة ودليل حضارة ورؤية ومعرفة وعلم، وكان فنّ الرسائل بنوعيه الديوانيّة والأخوانيّة من أكثر الفنون اعتماداً على الصنعة بحيث يحظى الناثر الماهر بمكانة متميّزة لا تُضاهى، وكان للكتّاب مواقع خطيرة لدى أصحاب السلطان والنفوذ والحكم تضعهم في مقدمّة المواقع الرسميّة، على النحو الذي خلق صراعاً كبيراً بين الكتّاب حرّضهم إلى التجويد في صناعتهم والتفوّق على أقرانهم، وسبق أن قيل في مديح فنّ الرسائل في التاريخ العربيّ الإسلاميّ: «فُتحت الرسائل بعبد الحميد وخُتمت بابن العميد»، تعبيراً عن إجادتهما الصنعة وأحاطتهما بآليّاتها وتقاناتها التعبيريّة والتشكيليّة على أفضل ما يكون.
وربّما كان تأثير كتّاب النثر من أصحاب الخطبة والرسالة وغيرهما من فنون النثر المعتبرة أوفر حظاً من الشعراء أحياناً في عصور التطوّر الحضاريّ للدولة العربيّة الإسلاميّة، إذ اتّسع دورهم وتضاعفت أهميتهم وتسابق المتنافسون فيها لأجل الحصول على حظوة السلطان والحاكم والأمير، وصار واحدهم وجهاً من وجوه الدولة يقترب في المصطلحات السياسيّة الحديثة من شخصيّة «وزير الإعلام»، لما يؤديه من دور مفصليّ في بناء السياسة الإعلاميّة للدولة وتوجيهها بما يحمله خطابه من قوّة ودراية ومعرفة وتأثير، إذ كان الجمهور يترقّب ما يقوله عبد الحميد الكاتب في عصره أو ابن العميد في عصره الآخر كي يفهم توجّهات الدولة ويؤمن بها، بما ينطوي عليه الخطاب من قوّة في الصنعة وبلاغة في البيان وحسن في الصوغ ودلالة في المعنى، ليكون الاحتكام النهائيّ في تشييد الخطاب وبنائه للصنعة بما تنطوي عليه من ضبط للآليّات ونُظُم الصياغة والخبرة والتجربة، والقدرة على تكوين جمهور خاصّ للكاتب أنشأ له «مجتمعَ تلقٍّ» يحظى لديه بما يشبّه التقديس ولا يختلف اثنان على ما يحتويه خطابُهُ من بلاغة ومعنى، ولا بدّ هنا من التعويل نظرياً على قضية «الصنعة» بوصفها العامل الأبرز والأهم والأخطر في بناء هيبة شخصيّة الكاتب، وكانت هي موطن التنافس بين جمهرة الكتّاب الذين يتطلّعون نحو مواقع السلطة كي يتبوّأوا مكانة الكاتب الرسميّ لدى الخلفاء والأمراء والولاة، فالرهان الوحيد يكون على «الصنعة» فهي القادرة على إحداث الفرق بين كاتب وآخر، بحيث يثير انتباه وإعجاب رجل الدولة ليكون كاتبه الأوّل والأكثر حظوة على المستويات كافة، بما يجعل من صانع الخطاب بهويّته الصياغيّة الخاصّة الشخصيّة الكاتبة الأكثر قرباً لمنطقة صنع القرار ابتداءً بفضاء الخطاب وانتهاءً بالسياسة وقيادة الدولة.