هل صنعت الطفولة العراقيَّة حزناً إبداعيَّاً؟

ثقافة 2020/09/01
...

  استطلاع : صلاح حسن السيلاوي
 
 الطفولة وبيتها الأول في ذاكرة الإنسان، سطوعٌ من نور لا ينتهي، سطوعٌ تتشعب منه طرقٌ في آفاق السنوات الأولى، طرقٌ للنقاء والدهشة والأسئلة، يختلط فيها الأب والأمّ والإله، اللعب والجد، الصدق والكذب، البكاء والضحك، يتساوى فيها الذهب والتراب، هناك عند أول عتبات الحياة، تلك العتبات التي تظل تسطع في ذاكرة المبدع
عن أثر تلك الطفولة على المنجز الإبداعي نتساءل، هل نجد أثراً واضحاً لها في الكتابات الأدبية؟، ماذا عن صورة الطفولة العراقية التي تنفست رائحة البارود والعنف الطائفي وتلونت أيامُها بألوان الملابس العسكرية؟، أيمكن أن نعدّ تلك الطفولة حافزاً لصناعة حزن مضاف لحزن العراقيين في كتاباتهم؟، أم أن هناك ألوانا أخرى لطفولتهم؟، عن كل هذا كان استطلاعنا مع نخبة متميزة
من مثقفينا.
 
طفولة فقدت بهجتها
الروائي أحمد الجنديل يرى الطفولة العراقية فاقدة لبهجتها بسبب الأجواء المعتمة التي يعيشها الطفل، لا طفولة من دون فرح، والفرح يلوذ من مكان لآخر نتيجة الدمار والخراب الذي يشهده البلد، مشيرا إلى أن الأطفال على الرغم من البراءة التي يتمتعون بها إلا أنهم يبحثون عن رئة يتنفسون من خلالها، لافتا إلى أن الكبار كانوا سببا في سرقة البسمة من شفاه الأطفال، وغلق منافذ الارتقاء أمامهم من خلال العنف الذي يمارسونه في حياتهم.
وأضاف الجنديل موضحا: يستيقظ الأطفال على صوت الرصاص، مشهد الدم هو المشهد المألوف لديهم، صور العنف والتطرف تتجسد أمامهم بصورها المخيفة المرعبة. ونحن نتحدث عن الطفولة التي شبت على رائحة البارود، أقول إنها لم تجد حافزا لدى البعض للكتابة عنها رغم خطورتها أولا، ولكونها منطقة خصبة للابداع.. مشكلة السارد العراقي اهتمامه بالعناوين الكبيرة للأحداث رغم أن الطفولة وما لاقت من انتكاسات خطيرة تحمل في داخلها أكبر العناوين التي تشكل حافزا للكتابة. الأطراف المعنية بالمشهد الثقافي العراقي هي الأخرى لم تلتفت الى هذا الجانب، نحن مولعون بالكتابة عن حزن الكبار، نكتب عنه باسهاب، نتناوله من عدة زوايا، نجتهد في ذكر الاسباب والنتائج، أما الكتابة عن الطفولة، عن الخيبة والاحباط والمرارة التي يعيشها الأطفال فإنها لم تجد لدى الكثير منا الاهتمام المطلوب .. نحتاج اليوم الى أقلام قادرة على التوغل في عمق هذا الموضوع والكتابة عنه بجدية وحذر لأنه يمثل المشكلة الكبرى التي ستكون كارثية على الجيل المقبل. لقد أدى أدب الاطفال دورا مهما في ترسيخ القيم الانسانية في نفسية الطفل ودفعه الى فتح نوافذ تفكيره بطريقة سليمة بعيدا عن كل اشكال التطرف، والأخذ بيده الى ساحات الفكر المشرق والمعرفة، إلا أن الواقع الذي نعيشه اليوم أعطى صورة مغايرة، ولعل أحد أسباب هذا النكوص هو الخلل الحاصل في عموم المشهد الثقافي.
 
سيرة للسنوات الأولى
الشاعر الدكتور وسام حسين ابتدأ إجابته بتساؤلات قال فيها: كيف للشاعر أن يتبنّى خطابًا شعريا يتناسى فيه بالمرّة، ما كان قد انطبع في ذاكرته منذ أيام الطفولة وصولا إلى سنيّ مراهقته؟، من أثر الديكتاتورية المقيتة، التي عملت طيلة عقود من الزمن، على ما يشبه «غسيل الأدمغة» عبر برامجها المؤدلجة التي من شأنها، زرع ثقافة العنف والكراهية، وإنماء روح التفاخر بحمل السلاح، وصناعة عدوٍّ مختلق في الذاكرة الجمعية للأمة بعامة والطفل بخاصة..؟ 
ثم بدأ حسين بالإجابة عن تساؤلاته ذاتها بقوله: التخلّي عن ذلك المتخيل ليس بالهيّن، فالشاعر ليس إلا إنسانًا، تعمل ذاكرته على تغذية نصوصه بما كان عليه من سلوك يراه الآن مرتعًا للبراءة، وإذا به يصطدم بتلك الذكريات المريرة، حين يتذكر أنه منذ نعومة أظفاره يُردّد (أنا جندي عربي بندقيتي بيدي) أو (أنا جندي صغير كالمغاوير أسير) وغيرها من الأناشيد التي لم ترسم في سماء عقله سوى هذا المستقبل، مستقبل أن يكون جنديا يحمل سلاحا يُقاتل به الأعداء..! أو لا يجد لعبة يلهو بها غير الأسلحة؛ ليُفرغ شحناته التي تولّدت لديه من تلك الأناشيد عبر هذه الأسلحة «البلاستك» وحتى لو مرّر شريط ذاكرته إلى مراحل عمرية أخرى، لا يجد غير هذا المضمون السوداوي في حياته، فلا يجد غير مشهد رفع العلم والطلائع الذين يتمنى حينها أن يكون واحدا منهم، ويسعى لأن ينخرط في صفوفهم، أو العكس، وفي كلا الحالتين، يمثل ذلك المشهد قتلا لبراءته واستنزافا لها عبر تلك المناشط المؤدلجة لصالح (الحزب والثورة) وغير مشهد مدير المدرسة يرمي من بندقيته أثناء تأدية التلاميذ مراسيم رفع العلم، ثم تنقضي سائر مراحل دراسته بين قصيدة لأبي تمام (السيف أصدق إنباءً من الكتب...!) التي لا ينطبع في ذاكرته منها، غير نتيجة حتمية تذكره بما كان يحلم به في صغره من أنشودة (أنا جندي عربي).. تدعوه لحمل السلاح، فهو الأصدق من كل شيء يحلم به، وما عداه سراب.. وانتهاء بما تقرر عليه حفظه من أبيات لصفي الدين والتي منها: (سودٌ وقائعنا حمرٌ مواضينا) وبهذه الفذلكات البديعية، نجحت آيديولوجيا النظام الشمولي بصنع أجيال لا تفخر إلا بالعنف لأبعد الحدود والتباهي بالرد صاعين للمعتدي.
ثم أضاف قائلا: وهكذا تسير عجلة الذاكرة عبر هذه المشاهد الخادشة لطفولته المسروقة من حياته، وهنا يكون السؤال، كيف للشاعر أن يبني في خطابه الشعري الحالي ما يمكن له اجتياز كل تلك المشاهد من حياته..؟ 
برأيي أن المهمة عسيرة، وتتطلب مدة زمنية مع خطة مدروسة لتفعيل خطاب شعري مضاد لما انغرس في مخيال الشاعر من أفكار الحزب والثورة.. وإلا بقينا ننتظر جهدا فرديا هنا وهناك، قد لا يؤثر في عموم المشهد الثقافي إلا بقدرٍ قليل، وهذا ما نجده عند (جليل خزعل) الذي سار على خطى (جعفر علي جاسم) ومن قبله (باقر سماكة) وهي جهود طيبة، ولكنها تبقى جهودًا فردية، لم تأخذ حيزًا أكبر، فمشهد الأدلجة هو الطاغي في مخيال الشاعر الآن وسحب الطفولة إلى مناطق منزوعة السلاح، تشبه إلى حد كبير، ذلك الذي يبحث عن فسحة ظل تحت ظهيرة ساخنة، فما إن يفرح بوجود بقعة ظل صغيرة، فسرعان ما تلسعه أشعة الشمس
بحرارتها الطاغية...!
 
جيكور مكان الطفولة الأول
الشاعر سلام مكي قال: لعل جيكور السياب، المثال الأبرز على قوة وسطوة الطفولة والمكان الأول في تشكيل الوعي الثقافي والفكري للمثقف. جيكور، قبل السياب، كانت مجرد قرية صغيرة، تنام مطمئنة على مقربة من شط العرب. وبعد مجيء السياب، تحولت إلى أيقونة ثقافية، أرغمت دارسي شعر السياب ومحبيه على قصدها، لقراءة التشكلات الأولى لشاعر بحجم السياب. فكانت نقطة انطلاق مهم وكبير في رحلة مرت بأماكن جديدة لم يسر فيها أحد. ولا تكاد تخلو كتابة أو نصوص من المهد الأول لحياة الشاعر، أو بيت طفولته، حتى لو كبر هذا الشاعر، وتعددت الأماكن التي أثرت في ذائقته الشعرية. فبيت الطفولة، هو المنبع الأول، وهو صانع الكلم الأول، منه صاغ الشاعر أول حرف، وألبسه ثيابا زاهية، وعطّره من روحه، فأطلقه إلى الخارج. البارود وصرخات ألم الفقد والتغييب، ليست لصيقة بالطفولة وحدها، فكل مراحل حياة المثقف العراقي، من مختلف الأجيال، مغمسة بروائح الموت وصور الأشلاء المتناثرة في كل مكان. إذ لم يخلو زمن من موت، أو رائحة بارود، أو عنف بمختلف أشكاله. الماغوط، قباني، السياب وغيرهم كثير من الشعراء، كانوا أوفياء لبيت الطفولة، أو مدينة الطفولة. ذلك أن مفهوم البيت قد يختلف من شاعر إلى آخر. فالمدينة بشوارعها وأزقتها، وبيوتاتها القديمة والحديثة، بأهلها، بغربائها، كلهم بالكاد يشبعون غريزة شاعر بمفهوم البيت، أو المكان الأثير، في حين هنالك شاعر يكتفي بسور قديم، وغرفة بسيطة، وشجرة زرعها في خياله، وقرر أن يسقيها كل يوم، لتكون أثمن ممتلكاته الشخصية. هذه الأمور البسيطة، تعني له أكثر من بيت. بينما هنالك مثقف، نسى وتناسى بيت الطفولة، جرفه تيار التزويق وانبهر بالعمارات والمدن الفاخرة، فقرر أن يكون ولاؤه الروحي للحياة الجديدة، لتشكل روافد له في
تأسيس ثقافته.