ابتداءً من نهاية أربعينات القرن العشرين، والعقود التي تلت ذلك، كان الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي، وكذا التجارب والمشروعات الإصلاحية التي عبّرت عن خطاب هذا الفكر، قد حظيت باهتمام لا بأس به من جانب عدد من المؤرخين والمفكرين والباحثين العرب والمسلمين المعاصرين وغيرهم من علماء المشرقيات الأجانب ''المستشرقين''، ومن الباحثين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط من السياسيين والباحثين الستراتيجيين في غير مكان بالعالم في الشرق والغرب.
كان هؤلاء المهتمون قد أمعنوا ببصيرتهم في الخطابات الإصلاحية، وذلك عندما أخضعوا نصوصها إلى الدرس والتحليل والمقارنة والمفاضلة والمعايرة النقدية، فضلاً عن إنزالها في سياقات تاريخية ومجتمعية وسياسية ضمن قراءات معرفية وسوسيولوجية متعددة. وصار مجال تفكيرهم يشتغل في حقل معرفي واسع الفضاء هو حقل ''ما بعد النص الإصلاحي".
ولعلَّ المسألة في التعريف واضحة للوهلة الأولى، فالإصلاح إنما يبدأ بـ ''فكرة''، وهي التي غالباً ما تصاغ في ''نص ما''، سواء كان شفاهياً أم مدوناً، تسعى مقاصده لأن تتحوّل إلى واقع عملي وميداني وتطبيقي ملموس في المجتمع، وهو ما نسميه اليوم بـ ''المشروعات الإصلاحية''، وعندئذ ستولد ''فكرة النظر'' في النص الإصلاحي، في خطابه النظري، وكذلك في حراكه الميداني أو العملي أو التطبيقي أو التداولي، ليولد لنا فضاء نقدي جديد هو فضاء ما بعد النص الإصلاحي.
من المحاولات المبكرة تلك التي نهض بها أحمد أمين (1866- 1954) عندما كان يكتب في الصحف العربية بمصر عن تجارب الإصلاحيين المسلمين والعرب المُحْدَثين بوعي حقلي ومعارفي رغبة منه في رسم ملامح الفكر الإصلاحي الإسلامي الحديث، وهي المساهمات التي ضمها، فيما بعد، كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث)، الذي ظهر في عام 1948 ككتاب مستقل من حيث الرؤية والمنهج، ومن حيث الوعي المعارفي أو الأبستمولوجي النسْقي الذي ثوى فيه، أسس هذا الكتاب لإمكانية الحديث والبحث في التجارب الإصلاحية الإسلامية التي ظهرت خلال العصر العربي الحديث، والملاحظ أنه في خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن العشرين، لم يستطع أي باحث عربي جاء بعده تجاهل ما كتبه أحمد أمين في هذا الشأن؛ فمساهمة الرجل كشفت عن خطاب عدد من النهضويين العرب والمسلمين في مشهد واحد عنوانه ''الإصلاح''، وبقدر ما كشف الحديث في هذا المشهد عن أدوار هؤلاء المصلحين العملية، آثر أحمد أمين تبيان المشهديّة الفكرية في تجربتهم من خلال إبراز أهم المفاهيم المصطلحية المركزية في خطاب كل واحد منهم، ومن ثم إجراء مقارنة تشخص الاختلاف والاتفاق فيما بين تجارب هؤلاء بعضهم البعض، ما يعني أنه وضع مفاهيمهم المركزية الخاصة بهم في سياق المشكلات التي تصدوا لمعالجتها في حياتهم العلمية والثقافية، والمآزق الفكرية والخطابية التي تصدوا لها ضمن شروط المرحلة الثقافية والحضارية، وشروط حراكها السياسي الضاغط حينها، فضلاً عن الضغوط الخارجية التي كانت تمارس سلطتها على المجتمع العربي والإسلامي.
تناول أمين تجارب عشرة من المصلحين العرب والمسلمين في العصر العربي الحديث، هم: محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791)، ومدحت باشا (1822 - 1883)، وجمال الدين الأفغاني (1838 - 1897)، وأحمد خان (1817 - 1898)، وسيد أمير علي (1849 - 1928)، وخير الدين التونسي (1820 - 1890)، وعلي مبارك (1824 - 1893)، وعبد الله النديم (1845- 1896)، وعبد الرحمن الكواكبي (1848 - 1902)، ومحمد عبده (1849 - 1905)، وكل ما فعله أمين أنه دخل إلى عالم ما بعد النص الإصلاحي الحديث من أبوابه المعارفية بشكل فاعل ومنتج حتى أن كل الذين جاؤوا بعده من الباحثين الذين اشتغلوا على هذا النوع من النصوص لم يستطيعوا تجاوز منجزه في هذا المجال؛ بل جعلوا من كتابه آنف الذكر بوابة رئيسة للدخول إلى عوالم النص الإصلاحي العربي والإسلامي الحديث، وإلى تجاربه ومشروعاته ومجالات تداول أفكاره من الناحية النظرية والعملية والميدانية. إلا أن أمين، وبقدر تعلق الأمر بالإصلاحيين العراقيين، ما وجدناه قد أشار إلى أي منهم، ولا حتى أشار إلى ما وضعوه من مشروعات فكرية إصلاحية، خصوصاً وأن جمال الدين الأفغاني ترك بصمات كانت واضحة لدى عدد منهم في النصف الأول من القرن العشرين، كما أن تيار الحركة الوهابية هو الآخر قد ترك أثراً في عدد من الإصلاحيين العراقيين من المثقفين الدينيين، مع ذلك، مثلت مساهمة أحمد أمين أحد المؤشرات التواصلية المهمة في مسارات الكتابة العربية المعاصرة عن الخطاب الإصلاحي، وعن النص الإصلاحي. ولما كانت مساهمة أحمد أمين ذات منحى ريادي في بعض وجوهها، فإنها أثارت الشهية المعارفية لدى جيل تالٍ من الباحثين والمؤرخين والمفكرين في الوطن العربي لأن يمعنوا النظر في دراسة المنجز الإصلاحي العربي والإسلامي الحديث وفق منظورات قرائية مختلفة أخذت تتواتر في الظهور خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وظلت متواصلة فيما بعده على هيأة بحوث ودراسات مستقلة، أو على هيأة فصول في كتب تناولت الفكر العربي والإسلامي الحديث، أو على هيأة كتب مستقلة قائمة برأسها. من الدراسات المهمة التي عكفت على دراسة إشكاليات الإصلاح العربي والإسلامي الحديث بعد تجربة أحمد أمين، هي محاولة هشام شرابي (1927 - 2005) في كتابه (المثقفون العرب والغرب/ عصر النهضة (1875 - 1914) الذي ظل شرابي يكتب فصوله باللغة الإنجليزية أولاً خلال مرحلة ستينات القرن الماضي حتى أتمه ونشره عام 1970 باللغة ذاتها. وبعد عام ترجمه شرابي نفسه إلى العربية، وصار الكتاب، منذ ذلك التاريخ.
أحد المراجع التي حازت اهتمام المشتغلين في الفكر العربي الحديث، ولذلك حاز – شرابي - به رياديّة خوض هكذا اشتغال في وقت لم تكن هناك سوى أقلية من المثقفين العرب، من الذين ظهروا في تلك الفترة، قد أقبلوا على إعمال بصائرهم في دروب هذا المعترك لاستظهار إشكاليات الإصلاح في الفكر العربي والإسلامي الحديث. ناقش الكتاب، من بين ما ناقش، الأسس النظرية للنزعة الإصلاحية في الإسلام، ومن ثم أيديولوجية الإصلاح الإسلامي، وموضوعات أخرى ترتبط من بعيد أو قريب بإشكالية الإصلاح. لكن قراءة أولية له تكشف بأن شرابي آثر البحث في مفاصل اليقظة العربية من خلال خطابها الفكري وتحوّلات المثقف في متونها، إلا أنه ركز، وبنحو ريادي لافت، على البُعد الإصلاحي في حراك الخطاب العربي الحديث خلال الفترة الزمنية التي حددها العنوان الفرعي للكتاب. ومع أن شرابي أثنى على كتاب ألبرت حوراني (الفكر العربي في عصر النهضة 1798 - 1939). صدر الكتاب لأول مرّة باللغة الإنجليزية عام 1962، وصدرت ترجمته العربية الأولى عام 1977 عندما عده مرجعاً لا غنى عنه لأيّة دراسة تتناول تاريخ الفكر العربي الحديث.