«حكاية جمعة الذي اختفى فجأة» مغامرة سينمائيَّة كادت تطيح برؤوس أصحابها

الصفحة الاخيرة 2020/09/02
...

 رحيم يوسف
كان ذلك في بداية ثمانينيات القرن الماضي، وفي غمرة الموت المجاني في الحرب الطاحنة بين العراق وايران، وبعد فترة ليست بالطويلة على تجربة تصوير اطروحة تخرج الصديق قاسم حميد فنجان في مدينة الثورة- الصدر حالياً،
طلب مني الصديق ناصر مؤنس، تغطية كلفة اجهزة سينمائية، وهي: “كاميرا ٨ ملم”، و”عارضة أفلام”، و “ما فيولا” وغيرها، لتجديد حلم ظل يرافقنا منذ الصبا بصناعة فيلم من افلام الهواة وبإمكانياتنا البسيطة، وافقت فورا على الشراء مشترطا، بما يشبه الطرفة، اطلاق اسم “شركة الديك الرومي للإنتاج السينمائي” على شركتنا، فوافق ناصر على التسمية، وتم دفع المبلغ لتصبح الشركة واقع حال، وجدنا ما نريد من معدات معروضة للبيع لدى الفنان المسرحي يوسف ضمد، وكان قد جلبها من فرنسا، لكنه تعرض الى اصابة في بداية الحرب، أدت الى إعاقته، فاضطر الى بيعها، وهكذا باع يوسف ضمد حلمه لمجموعة من الحالمين في أزمنة الموت.
 واجهتنا العديد من المشكلات والعراقيل، منها: كيف ستتم تغطية كلفة الانتاج؟، وأين ستكون مواقع التصوير، في جو العراق اللاهب وأين سنجري عمليات تحميض الافلام بعد التصوير؟ ظلت هذه الاسئلة رهنا للظروف، إذ كان الهم الأساس، هو الحصول على
الأجهزة.
صورت الشركة ثلاثة افلام في تلك الأجهزة، منها: أطروحة تخرج السيدة نجاة حسن، التي غنى فيها فلاح عبود، قصيدة يا قطار الشمال يا قطار الجنوب للشاعر فوزي كريم، وفيلم “حكاية جمعة الذي اختفى فجأة” المقتبس من قصة بالعنوان نفسه للقاص والروائي حميد المختار، فضلا عن فيلم “التابو والغستابو” قصة وسيناريو الكاتب خضير ميري.
وأصل الحكاية ان القاص حميد المختار، قرأ علينا قصته القصيرة “حكاية جمعة الذي اختفى فجأة “، في مقهى حسن عجمي، فأثارت اعجابنا، فانهمكنا في تحليلها وتقريضها ثم صار الاتفاق بيننا على افلمتها، وتحمس الصديق أكرم الذهبي فتبرع بعشرة دنانير، لتكون خمرة انتاج الفيلم، والطريف إن هذا المبلغ حصل عليه الذهبي، بعد ان أفرغ جيوب الشاعر صلاح حسن، إثر منازلة “الطاولي” الشهيرة التي غالبا ما يخرج منها صلاح حسن خاسراً.
 بعدها قرر الثلاثي حميد المختار، والشاعر الراحل رياض إبراهيم، وناصر مؤنس، التوجه الى شارع المتنبي، لبيع مجموعة من الكتب الى محمد الفلفلي صاحب مكتبة “الفلفلي” المعروفة في سوق السراي، وبذلك تم الحصول على ثمن الفيلم الخام.
 وحدثني المخرج ناصر مؤنس عن هذه التجربة قائلا: قصة “حكاية جمعة الذي اختفى فجأة” التي كتبها حميد المختار، تتحدث عن شخص يختفي، وكل شخص اسمه جمعة يختفي، وكل واحد من الشهود يروي حادثة الاختفاء بشكل يختلف عن قصة الاخر، ومن وجهة نظره، فإن رسالة الفيلم هي” داخل كل شخص عراقي، ثمة حلم معطل اسمه جمعة” ، وقد نفذنا الفيلم يضيف مؤنس باسلوب السينما الجديدة، اذ تشاركنا انا والأصدقاء سالم شدهان وحيدر عليوي في عمليات كتابة السيناريو والتصوير والإخراج، وهذا ما أكده المخرج والأستاذ في كلية فنون الحلة د. سالم شدهان، اذ قال: كنا نعقد جلسات مطولة وعلى الرغم ان ناصر مؤنس وحيدر عليوي، هما أصحاب المشروع، الا اني أقحمت نفسي وبدأت معهما في عملية البحث
عن جمعة . 
صورنا المشاهد الاولى للفيلم في مدينة الثورة- الصدر حاليا وتحديدا في سوق قطاع ٢٥ او ما كان يطلق عليه حينها سوق “الرشاد”، ولا ادري لماذا هذه التسمية الغريبة، بعدها تم الانطلاق صوب الحلة، لتصوير بعض المشاهد واللقطات، التي تخص شخصية سالم شدهان في بيتهم في حي الصفيح، الذي تطلق عليه الحكومة “حي نادر” وفي غرفته المبنية بمادة البلوك، صورنا حبيبته، التي رفضت في البدء التحدث عن اختفائه حتى اقنعها، وهو يجلس معها في  الغرفة نفسها، لتواجه الكاميرا وتتحدث عن اختفائه، وهي تبكي، كما صورت بعض المشاهد في غرفتنا بالقسم الداخلي، اذ كنا نبحث عن =جمعة، فتتبعنا آثاره في كل الأماكن، التي نتوقع فيها وجوده، بما في ذلك نهر دجلة، فقد وجدنا، اثرا لكننا لم نجد له جثة. 
 وبعد الانتهاء من التصوير، ارسلنا الفيلم الخام(شريط ريفيرسل حجم ٨ ملم) الى كركوك بواسطة الصديق عارف معروف، اذ تم تحميضه في احد الاستوديوهات الخاصة، وحينما تسلمنا بكرة الفيلم بعد تحميضه، اتخذنا غرفة في القسم الداخلي كمشغل للمونتاج، وكنا نعاين اللقطات بالعين المجردة، وهذه ميزة وفرها لنا “الريفيرسل”، وقتها كان الجو مشحونا بالنقاش والعمل في غرفة، هي أصلا تستخدم كمخزن صغير، واذكر كيف احتدم الخلاف بشأن التايتل، اذ اقترح ناصر ان يكون التايتل صوتيا، وضممت صوتي له، لكن حيدر اعترض وهاجمني حينها بقسوة، فقد كان انانيا جدا عكس ناصر تماما، وبعد الانتهاء من الفيلم تم عرضه في اماكن عديدة، منها: شقة المخرج اسعد الهلالي، بحضور مجموعة من الاصدقاء منهم الروائيان حميد المختار وشوقي كريم وانا، والكاتب المتفلسف خضير ميري، بعدها عرض الفيلم في اكاديمية الفنون، واشاد به الاساتذة جعفر علي، وثامر مهدي.
 والمفارقة إن الفيلم صورته كاميرا ٨ ملم، وبشريط ريفيرسل منتهي الصلاحية (يستخدم لتصوير الاخبار، ولا يحتاج الى طبع، انما الى تحميض فقط ).
 و”البحث عن اختفاء جمعة” تجربة واعدة، لا تخلو من المخاطرة لشباب عشقوا السينما، اذ طلب د. جبار عودة العبيدي مشاهدة الفيلم، وقرر إحالة الفريق على الامن، اذ جاء برفقة عنصر أمني معروف في الكلية، وبعد المشاهدة قال العبيدي: “ من جمعة هذا، هل تنتظرون اليسار؟”، وكاد  يطيح بنا لولا مصادفة
انقذتنا.